في لحظة فارقة من عمر النظام التجاري العالمي، تخلع واشنطن برقع المجاملة، وترتدي درع الابتزاز، فتمضي إدارة ترامب في فرض رسوم جمركية موجعة علي واردات أوروبية استراتيجية، ملوحة بعصا اقتصادية تتجاوز كونها إجراءات تجارية، نحو اختبار صريح لمدى التزام القارة العجوز بمحددات النفوذ الأمريكي، وشروط تحالف لم يعد قائما على الندية بل على ضريبة ولاء تتصاعد قيمتها كلما حاولت أوروبا انتهاج مسار مستقل، وتضع الرسوم الأمريكية أوروبا أمام خيارات حرجة، وتكشف حجم الارتهان المتبادل بين ضفتي الأطلسي بينما تتقدم الحمائية الأمريكية كأداة ضغط سياسي قبل أن تكون سياسة اقتصادية، مما ينذر بمرحلة جديدة تتقاطع فيها المصالح مع العقوبات، وتصبح الأسواق ساحة لصراع النفوذ لا لتبادل المنافع.
اتخذت حرب الرسوم الجمركية منحى تصعيديا غير مسبوق، مع تهديدات من زعيم البيت الأبيض، بفرض رسوم موحدة بنسبة 30 % على واردات استراتيجية من الاتحاد الأوروبي والمكسيك اعتبارا من أول أغسطس المقبل.
وتشير التسريبات الأمريكية إلى أن القرار يستهدف واردات بقيمة 275 مليار دولار سنويا موزعة بواقع 160 مليارا من أوروبا و115 مليارا من المكسيك، وتشمل القائمة السيارات الألمانية والأجهزة الإلكترونية الفرنسية والأغذية المصنعة من إسبانيا وإيطاليا إضافة إلى الصلب والألومنيوم ومكونات السيارات المكسيكية.
الخطوة جاءت تحت غطاء حماية الأمن الاقتصادي القومي وتحقيق ما سماه ترامب إعادة التوازن التجاري مع شركاء لا يلتزمون بالعدالة التجارية حسب وصفه وتهدف الإجراءات بحسب التقديرات الأولية إلى خفض العجز التجاري الإجمالي بنسبة 42% خلال عام ونصف وتوفير أكثر من 1.2 مليون وظيفة جديدة داخل الاقتصاد الأمريكي خاصة في قطاعات الصناعات الثقيلة والخدمات اللوجستية.
وتدرس أوروبا، عدة مسارات للرد على رسوم ترامب الجمركية الجديدة التي تستهدف صادراتها بداية من أول أغسطس، وتشمل خياراتها التفاوض السريع لعقد اتفاق تجاري مصغر يغطي قطاعات محددة مثل السيارات والصناعات الرقمية والطبية، كما تناقش بروكسل فرض رسوم انتقامية على السلع الأمريكية بقيمة قد تتجاوز 72 مليار يورو، وتشمل منتجات صناعية وزراعية، إضافة إلى تفعيل أداة مكافحة الإكراه للرد على الضغوط التجارية من واشنطن، وتدرس بعض الدول الأوروبية تاخير تنفيذ الرد إلى ما بعد الموعد المحدد لمنح فرصة للتوصل إلى تسوية، كما تسعى المفوضية الأوروبية لتوسيع شراكاتها التجارية مع دول آسيا وأمريكا الجنوبية والصين، لتقليل الاعتماد على السوق الأمريكية، وتحدث مسؤولون أوروبيون عن ضغوط داخلية لاعتماد سياسات دعم المنتج الأوروبي وتشجيع حملات مقاطعة شعبية للسلع الأمريكية، مؤكدين أن الرد الأوروبي سيكون تدريجيا ومنظما لتفادي تصعيد شامل قد يضر بالاقتصاد العالمي.
وبالفعل بدأت المفوضية الأوروبية بوضع مسودة رد مضاد يتضمن فرض رسوم تتراوح بين 18 و28 % على صادرات أمريكية إلى القارة تشمل الطائرات المدنية والبرمجيات ومنتجات الطاقة والمعدات الطبية، كما أعلنت المكسيك أنها تدرس استهداف واردات زراعية أمريكية رئيسية كالذرة ولحوم الأبقار ومنتجات الألبان برسوم مماثلة أو فرض قيود غير جمركية عبر إجراءات رقابية جديدة.
هذا التصعيد، قد يؤدي إلى تراجع التجارة المتبادلة بين الأطراف الثلاثة بأكثر من 120 مليار يورو خلال 12 شهرا، كما قد يؤدي إلى خسائر مباشرة في الاستثمار المتبادل تتجاوز 31% خاصة في قطاعات السيارات والبنية التحتية والتكنولوجيا الصناعية، وقد ترفع الرسوم الأمريكية الجديدة، تكاليف الاستيراد بنسبة 19 % داخل السوق الأمريكية ما يؤثر سلبا على المستهلك، ويزيد من معدلات التضخم إلى حدود 5.7% بنهاية 2025.
مسؤولون أوروبيون، أكدوا أن القرار الأمريكي المرتقب هو بمثابة إعلان حرب تجارية مقنعة وأنه يستهدف تقويض العمود الفقري للصناعات الأوروبية عبر بوابة الرسوم وأنه على القارة العجوز الاستعداد لاستراتيجية ردع اقتصادي وليس مجرد رد مؤقت.
و قدمت المفوضية الأوروبية للدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أمس الإثنين، لائحة بتعرفات على سلع بقيمة 72 مليار يورو، وقد تعتمد كردٍّ في حال فرضت الولايات المتحدة رسوما جمركية بنسبة 30% على وارداتها من التكتل.
وقال مفوّض التجارة في الاتحاد الأوروبي، بعد اجتماع وزراء تجارة التكتل في بروكسل، "نتفاوض أولا، ولكننا نستعد في الوقت ذاته"، مؤكدا أن هذا موقف مشترك لكل الدول الأعضاء.
وتأتي هذه الخطوة بعدما تجاهل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أشهرا من المفاوضات المضنية مع الاتحاد الأوروبي، وهدد بفرض رسوم جمركية بنسبة 30 % على الواردات من الاتحاد في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق بحلول الأول من أغسطس.
وفيما أعرب وزراء تجارة التكتل، عن حرصهم على التوصل إلى اتفاق مع واشنطن قبل انقضاء المهلة، فقد أكدوا الاستعداد لاتخاذ الإجراءات الضرورية إذا قرر ترامب المضي قدما بفرض رسوم جمركية شاملة.
وقال وزير خارجية الدنمارك، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي "كان هناك موقف موحد بالكامل بين الوزراء مفاده أننا يجب أن نكون مستعدين للرد إذا لزم الأمر"، وكان الاتحاد الاتحاد الأوروبي أعد لائحة منفصلة لواردات أمريكية بقيمة 21 مليار يورو، مبديا استعداده لفرض تعريفات عليها مقابل الرسوم الجمركية السابقة التي فرضها ترامب على الصلب والألومنيوم، وأعلن الاتحاد الأحد أنّه سيرجئ اعتماد هذه القائمة في إطار مساعيه للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بحلول الشهر المقبل.
وعدل ترامب توقيت فرض الرسوم الجمركية علي الواردات الأوروبية بشكل محسوب بهدف إعادة ترتيب أوراقه التفاوضية وتوسيع هامش المناورة مع بروكسل، حيث يدرك ان التصعيد الفوري قد يفتح جبهة تجارية جديدة في توقيت غير مناسب، خاصة مع تصاعد التوتر مع الصين، وسعي واشنطن لتركيز الضغوط الاقتصادية علي بكين دون تشتيت الجهود عبر مواجهة موازية مع الحلفاء الأوروبيين، كما أن تأجيل تطبيق الرسوم يتيح له فرصة اختبار ردود الفعل داخل الاتحاد الأوروبي، ومعرفة مدي تماسك مواقفه خصوصا في ظل وجود انقسامات واضحة بين دول تدعو للتفاوض وتفادي الحرب التجارية ودول أخرى تضغط للرد الحازم مثل فرنسا من جهة وألمانيا وأيرلندا من جهة أخرى.
ويأتي القرار أيضا استجابة لضغوط داخلية أمريكية من قطاعات اقتصادية كبري تخشي من ردود أوروبية، قد تستهدف صادراتها في مجالات الزراعة والصناعات الثقيلة والطيران، حيث تقدر المفوضية الأوروبية أن الخسائر المحتملة قد تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات في حال تبادل فرض الرسوم ويعكس التعديل رغبة ترامب في توجيه رسالة للأسواق تفيد أنه لا يسعي للصدام بل لتحقيق مكاسب عبر الضغط التدريجي وتوظيف عامل الزمن لانتزاع تنازلات أوروبية دون خسائر مباشرة كما يعزز من صورته كقائد يتحرك وفق رؤية مرنة وليست متهورة تمهد الطريق لمزيد من التنازلات من جانب بروكسل مقابل تفادي موجة تصعيد قد تضر بكافة الأطراف وتجعل الاقتصاد العالمي علي شفا ركود جديد.