منذ الصفحات الأولى لرواية «ميثاق النساء» للكاتبة حنين الصايغ، يجد القارئ نفسه أمام شخصية آسرة لا تُنسى: وهى "نيرمين".. ليست بطلة الرواية، ولكنها مرآة لتمرّد أنثوي يرفض الانصياع، ويصرّ على أن يكتب مصيره بيديه، في مجتمع الدروز حيث تتشابك القيود الأبوية مع الموروثات الدينية والاجتماعية.
الكاتبة حنين الصايغ نسجت لها عبر سردها الشيق شخصيةً مركّبة، عميقة، تجمع بين الضعف والقوة، وبين الطموح والعناد. وقد تركت في ذاكرة شقيقتها "أمل"، بطلة الرواية، صورة لا تُمحى، حيث تصف نفسها قائلة: "كنت أنا قليلة الكلام، ذات صوتٍ منخفضٍ وهادئٍ، وكتفيْن تميلان إلى الأمام وتنبئان بحَدَبةٍ غير مطمئنة".
في المقابل، كانت شقيقتها صاخبة الحضور، مشعّة بروحها المتمردة، كأنها الوجه الآخر لكل ما صمتت عنه الأخت.
منذ الصغر، أعلنت "نيرمين' رفضها للترويض حيث ذكرتها شقيقتها: "فكانت تكسر كلمة أبي وترتكب ما يعدُّه أبي إحدى الكبائر – وهي أنَّها كانت تناطحه وتجادله حين يؤنِّبها. وحين كان يضربها، لم يكن الضرب يكسر نظرتها المتحدِّية إليه".
وهكذا قدّمتها حنين الصايغ: عينٌ لا تنكسر، وندّ يعيد للأب صورة تمرّده في صباه، فيجلدها بعنفٍ مضاعف، وكأنها المرآة التي يخشى النظر إليها.
ولم يكن تمرّدها وحده ما جعلها مختلفة، بل جمالها الذي صار حديث الضيعة كلها: بوجهها المستدير، وعينيْها الخضراويْن الكبيرتيْن، وفمها الصغير، وشعرها المنسدل حتى خصرها. وقد تدفّق الخطّاب من كل القرى، حتى جلس الأب يعدّهم بفخرٍ أشبه بعدّ النقود في حصالة، متباهيًا بابنته التي تجاوز عدد طالبي يدها الخمسين.
لكن المفارقة أن هذه الفتاة لم تُسحرها المظاهر ولا بريق الزواج.. سخرت من العرسان تباعًا: مرة من حمرة خدود أحدهم، وأخرى من قميصٍ صاخب، أو حتى من رطل حليب جاء به آخر كهدية!.
نيرمين كانت تضحك بجرأة، وكأنها تُعلن أن خياراتها أكبر من أن تختزل في زيجة قروية عابرة.
هكذا تشكلت شخصيتها في الرواية: ذكية، ساخرة، واعية للعبة فى مجتمع الدروز. فهى لم تكن مجرد فتاة جميلة، بل أنثى تعرف كيف تحوّل الجمال إلى أداة مقاومة، لا إلى قيدٍ إضافي.
لكن ذروة تمرّدها تتجلّى حين تبوح بحلمها الصريح وهو الرحيل:
"أجل، أريد أن أُغادر الضيعة والجبل ولبنان، وإذا أمكن الشرق الأوسط بكامله!"
بهذه النبرة الحاسمة، تفصح عن رغبتها في الخروج من جغرافيا القهر، لتبحث عن حياة تستحقها. وحين تُسأل عن واقعية هذا الحلم، تجيب ببساطة الواثق: "على الأقلِّ، أكون قد حاولت"
ثم تكشف بجرأة عن رؤيتها للعالم من داخل أسرتها: "انظري إلى أُمِّي التي أفنت حياتها ولم تجد تقديرًا!.. أهذه هي الصورة التي يُراد للنساء أن يعشنها؟"
الأجمل في "نيرمين" أنها ترسم بخيالها صورة العريس الذي تحلم به: رجولة تُترجم في تفاصيل صغيرة، أن يفتح لها باب السيارة، يهيئ لها مقعد المطعم، يطعمها بيديه، ويفاجئها برحلاتٍ رومانسية. بدا وكأنها تكتب سيناريو لفيلمٍ بديل عن واقعٍ يرفض الحلم ويكسر الظهور.
هنا يكمن تميّز الرواية: إنها ليست مجرد حكاية عن فتاة متمردة، بل نص أدبي يضعنا أمام أسئلة أعمق عن الحرية والهوية والبحث عن مكانٍ آمن للروح.
قدّمت الكاتبة شخصياتها حيّة نابضة، تكاد تراها أمامك، بضعفها وقوتها، بسخريتها وأحلامها، بتناقضاتها الصغيرة التي تجعلها أقرب إلى بشر حقيقيين لا إلى شخوص ورقية.
ولاحظ أن "نيرمين" في الرواية ليست أيقونة مثالية، لكنها امرأة من لحمٍ ودم، تُخطئ وتضحك وتحلم، وتدفعنا معها إلى التفكير في مصير المرأة في مجتمعاتنا...
سلامٌ عليكِ يا نيرمين، وعلى تمرّدك الأنثوي الذي لم يكن نزقًا عابرًا، بل مقاومة صامتة ضد كل ما يُراد للنساء أن يسلّمن به في مجتمع أغلق على نفسه كل الأبواب... وانت في كل هذه المشاهد، سترى حضورها عاصفًا، يترك القارئ مشدودًا إليها، حتى يكاد ينسى أن الرواية ليست عنها وحدها. وهنا تكمن براعة حنين الصايغ: لقد منحت البطلة ظلالًا من الانكسار، لكنها منحت شقيقتها "نيرمين" وهجًا لا ينطفئ، لتظل الشخصيتان معًا مرايا لذواتنا: واحدة تمثّل الخوف والانكماش، والأخرى تمثّل الجرأة والتمرّد.
ولعلّي أتوقّف هنا، وأترك للقارئ شغف الاكتشاف، لأن «ميثاق النساء» ليست رواية أرويها، بل حياة كاملة تستحق أن تُعاش بين السطور..
الأسبوع القادم، بإذن الله، أواصل قراءة الرواية الممتعة والشيقة «ميثاق النساء» للكاتبة الرائعة حنين الصايغ.