«سيرجى أبرازوف» شخصية شهيرة محبوبة فى الاتحاد السوفيتى، وكان مديرا لأكبر مسرح للأراجوز فى موسكو، ولا يكاد يوجد أحد من أبناء الشعب السوفيتى لم يشهد حفلاته التى قدمها في السنوات الأولى من القرن الماضى .
مسرح الأراجوز
وفى هذا السياق يشير الكاتب والناقد المسرحى أحمد عبدالرازق أبوالعلا فى مقدمة كتاب «مسرح الأراجوز» الصادر حديثا فى طبعته الجديدة عن المركز القومى لثقافة الطفل – المجلس الأعلى للثقافة – تأليف سيرجى أبرازوف، وترجمة رمسيس يونان، وتقديم الكاتب والناقد المسرحي أحمد عبدالرازق أبوالعلا، إلى ذكريات طفولته وما كان لها من تأثير فى توجيه حياته، ويتحدث عن أيام شبابه حينما تعلق بفن الرسم وزاول فن التمثيل، فكان ذلك خير تمهيد لحرفته، ثم يحدثنا حديثا مستفيضا عن فن الأراجوز الذى ظل يمارسه أكثر من ربع قرن من الزمان، ويشرح لنا بالتفصيل كيف نشأت فى ذهنه فكرة كل دور من أدواره، وكيف كان ينجح تارة وتارة يخفق فى تنفيذ فكرته.
ويعتقد أبوالعلا أنه نفس السبب الذى جعل السير الشعبية، وكل ما يتعلق بالفلكلور ما زال موجودا حتى الآن، لأنه جزء من تاريخنا وثقافتنا، واتصال ضمير الجماعة الشعبية بهذا التاريخ، لن ينقطع بسبب قدرة التراث على التعبير عن النفس الإنسانية، بصدق وعفوية، فهو - بكل تجلياته - ظاهرة اجتماعية ترتبط بالوجدان الشعبى، والإنسان بطبيعته يحب الفنون بشكل عام، فما بالك لو كانت قادرة على التعبير عن أفراحه، وأحزانه، وقادرة على إحداث البهجة والسعادة في نفسه؟ بالتأكيد سيكون ارتباطه بها أكثر، وهذا بالفعل ما يحكم العلاقة بين الشعب، وفنونه، خاصة التاريخى منها، فحتى الآن ما زلنا نمارس طقوسا واحتفالات مقتبسة عن الفراعنة مثل الاحتفال بشم النسيم، وما يصحبه من طقوس كتلوين البيض، وما زلنا نحتفل بالموالد «مولد النبي - مولد الأولياء الصالحين» ونمارس طقوسا، مارسها شعبنا منذ مئات السنين، وكل هذا يحدث على الرغم من التقدم العلمي، والتكنولوجيا التى من الممكن أن تطمس هوية أى أمة لها حضارة.
وما يمكن أن يحسب للأراجوز أنه حافظ على فكرة التمثيل الموجودة حتى فى مرحلة ما قبل ظهور المسرح فى أعمال «المحبظين» و«أولاد رابية» و«الحكواتى، وخيال الظل، والسامر الشعبى، وكل فنون الارتجال وفنون المخايلة» ويعتقد أبوالعلا أنه كمظهر من المظاهر المسرحية، يستطيع التواجد، وممارسة دوره فى أى مكان، ويمكن استخدامه فى عروض مسرح الشارع، وعروض الأماكن المفتوحة، وطالما أنه قادر على التواجد بتلك الصيغة، فينبغى الاهتمام به، وتطويره، فنحن مثلا نتذكر الفنان محمود شكوكو، حين حوله إلى بشرى بدلا من الدُمية، حين ارتدى طرطور الأراجوز، واستطاع بتلك الفكرة، أن يجسده بشكل ملموس، ارتبط به الناس، وكان عاملا من عوامل شعبية الرجل.
دعم صيغة المسرح الشعبى
وتعد دمية «الأراجوز» واحدة من دمى «مسرح العرائس» ذلك المسرح، الذى فتح المجال أمام تلك الظاهرة الشعبية لتتطور وتتواجد بشكل حقيقي وتسهم فى دعم صيغة المسرح الشعبى الذى نريده، سواء كانت عروضه المسرحية للكبار أو الصغار، لأن فن «العرائس» يعد تطويرا لفن الأراجوز.
ولقد كان لصلاح جاهين فضل الريادة فى مجال مسرح العرائس، وإذا أطلعنا على المسرحيات التى كتبها لتبينت لنا الحقيقة حين نرى دمية الأراجوز واحدة من دمى العرائس المشاركة فى تلك العروض، وعلى وجه الخصوص أوبريت «الليلة الكبيرة» الذى بسببه افتتح مسرح العرائس فى مصر، حتى السينما نفسها استفادت من هذا الفن، ليس باستحضاره كظاهرة شعبية، لكن بتقديمه من خلال رؤية فنية متكاملة، جعلت من «الأراجوز» رمزا، وأداة للمقاومة، وهذا ما فعله المخرج هانى لاشين فى فيلم «الأراجوز» بطولة عمر الشريف، وكانت قصيدة سيد حجاب عن الأراجوز واحدة من القصائد المتميزة للشاعر، تلك التي أداها «الأراجوز» عمر الشريف.
ومما سبق يعتبر أبوالعلا أن هذا مدخلا لتقديم الكتاب الهام الذى كتبه المخرج الروسى سيرجى أبرازوف، المولود فى موسكو عام 1901 متناولا فيه تجربته مع مسرح الأراجوز، الذى أداره هنا، وكان شخصية مشهورة ومحبوبة فى الاتحاد السوفييتى، وعمل مديرا لأكبر مسرح للأراجوز فى موسكو، وترجمة رمسيس يونان، وصدرت طبعته الوحيدة أوائل الستينيات، ويذكر مؤلفه أنه اشتغل أربعة عشر عاما بالتمثيل فى الأوبرا أولا، ثم فى المسرح، كتبه في منتصف الأربعينيات، متناولا فيه تجربته مع الأراجوز التى بدأها عام 1920 ويذكر أن حرفته الأصلية قبل اهتمامه بالمسرح، كانت فن التصوير، وفى مرة أحضر أراجوزا من صنعه إلى المسرح، لتسلية الممثلين أثناء شرب الشاى فى قاعة المرطبات أثناء اشتراكه فى تمثيل أحد الأدوار فى مسرحية تسمى «الطائر الأزرق» وعندما شاهدت مخرجة العرض «كسينيا كوتلوباى» الأراجوز اقترحت عليه أن يصنع أراجوزا يمثل «تيرابو» أحد شخصيات المسرحية، ذلك الشيخ الضامر الساخط الأحدب الظهر، ليجرب دوره بواسطته، وهنا أحضره بالفعل إلى البروفة، وأخذ يطور شكله ليصل بالشخصية إلى الملامح المتوافقة مع طبيعتها، وتلك كانت هى البداية.
ويتتبع المنجز رحلة هذا الرجل مع الأراجوز، الذى قام بتطويره ليكون قادرا على أداء أى شخصية مسرحية يريدها، ولقد ذكر سيرجى أبرازوف مؤلف العمل أنه شاهد أعمالا فى تشيكوسلوفاكيا تستخدم عرائس الماريونيت، وكانوا يعتبرون ذلك أراجوزا، وفى نيويورك شاهد النوعين، وفى ألمانيا ذكر أنه كان هناك أكثر من 2000 مسرحا للأراجوز، لكنها فى الواقع كانت لعرائس الماريونيت أيضا.
إذن معظم تلك المسارح كانت تستخدم الماريونيت، وهناك فرق بين النوعين، فعرائس الماريونيت تتحرك بخيوط وسلوك، بينما عرائس الأراجوز يحركها شخص تختفى يداه تحت ملابس العروسة وهو في هذا العمل يصحح المعلومة ويفرق بين النوعين، حدث هذا فى معظم بلدان أوروبا، ويرجع سبب ذلك – كما يقول - «لنظرتهم إلى هذه الأراجوزات على أنها شيء بدائي» نفس السبب الذى تعامل به العرب مع تلك الفنون، كما أشرنا،ويؤكد أيضا أنه شاهد فى مسارح الأراجوز فى نيويورك، مسرحا أطلق عليه «مسرح الماريونيت» ومع ذلك كانوا يستخدمون فيه الأراجوزات القفازية، وهذا الذى ذكره «سيرجي» مهم جدا، لأنه يفرق بين الدمى المتشابهة، المختلفة فى وظائفها، وطرق أدائها، كما تحدث أيضا عن تجارب هامة شاهدها فى مسرح يسمى «مملكة الأراجوز» شاهد فيه روايات «الأميرة توراندو» – «الليلة الثانية عشرة» لشكسبير والحكاية الخرافية «الجمال النائم» وتم التمثيل فى تلك الأعمال كاملا بالأراجوز.
جولة أوروبية
وقد استفاد مؤلف العمل من تقنيات العروض التى شاهدها خارج الاتحاد السوفيتى فى جولته الأوربية، خاصة فيما يتعلق بالتقنيات والأدوات، ومن هنا نعرف أنه كان يسعى لتطوير أدواته، دون التخلى عن عشقه لعروسة الأراجوز الأساسية، وعدم تقبله لعرائس الماريونيت، وقدم عرضا عن «هتلر» عام 1942، وعرضا آخر عن «موسيلينى» عام 1944، وتحدث عن العرضين بإسهاب فى هذا العمل، وقياسا على ذلك، أود الإشارة هنا إلى تجربة د. نبيل بهجت، التى قدمها من خلال فرقته «ومضة» حين ناقش بعض الوقائع السياسية، وعالج موضوع الغزو الأمريكي للعراق، فى نفس وقت اندلاعه، فقام بتعرية السلبية العربية أمام أزمة العراق، وقدم مجموعة من العروض فى أماكن مختلفة بالقاهرة، تزامنا مع تلك الأحداث.
ومن هنا نفهم أن الأراجوز يستطيع معالجة كافة القضايا، التي يناقشها المسرح أيضا، فهو ليس مجرد دمية تثير الضحك لدى الكبار والصغار، لكنه أيضا يستطيع التعبير عن الهموم الإنسانية، والقضايا السياسية، بما يحقق له دوام الاستمرار فى إطار المسرح الذى هو أنسب الأشكال التى يعمل من خلالها وبها حفاظا عليه من الاندثار.
وتأكيدا على أهمية ما قدمه الفنان سيرجي، يذكر أنه عرض بعض أعماله أمام «مكسيم جوركى» فلاقى إعجابا منه، وعرضها أيضا أمام المخرج العالمى «ستانيسلافسكى» فحظى بنفس الإعجاب، فتكمن أهمية المنجز فى أنه يقدم الطرق والوسائل التى نستطيع بها تطوير فن الأراجوز فى مسرحنا، ليصبح قالبا يحتوى نصا حقيقيا بعيدا عن فكرة الارتجال التى يعتمد عليها، وهذا ما حاول أن يفعله «يعقوب صنوع» فى مسرحيته «الضرتين» التى عرضها عام 1870 وفيها استلهم فن الأراجوز حين قدمها فى إطار «الكوميديا الشعبية» وفيها كل مواصفات ذلك النوع من المسرح.
خصائص درامية
إن فن الأراجوز يتضمن خصائص درامية يمكن العمل على تطويرها، حيث أشار لها د.عصام الدين أبوالعلا، وحددها في النقاط التالية: «الموضوع والشخصيات النمطية، واللغة المستخدمة، والطابع الساخر، والنهاية السعيدة، والاعتماد على مثيرات الضحك، والكوميديا بأنواعها، والشخصيات المُضافة وعنصر الصراع» وهنا يقول أبوالعلا، إن هذا المنجز سيساعدنا كثيرا فى الوقوف على عتبات تطوير تلك العناصر من أجل الحفاظ على هذا الفن من الاندثار.