فى زمن السوشيال ميديا، لم يعد الجمال معيارًا طبيعيًا يُحتفى به كما هو، بل تحوّل إلى مقاييس مصطنعة تفرضها الصور المعدّلة والفلترات المبهرة، لتجعل من عمليات التجميل وسيلة شبه يومية يلجأ إليها كثيرون، خاصة من الشباب، فى رحلة بحث لا تنتهى عن «الكمال»، والأيام الماضية أعادت النقاش بقوة إلى الواجهة بعد أزمة البلوجر كنزى مدبولى، التى تعرضت لمضاعفات خطيرة كادت تفقد بسببها بصرها عقب حقن فيلر بالأنف، لتطفو على السطح أسئلة قديمة متجددة: إلى أى حد يجوز للإنسان أن يغيّر ملامحه طلبًا لرضا المجتمع؟ وكيف يوازن بين حقه فى التزيّن وتحذيرات الدين من المبالغة وتغيير الخِلقة؟
معايير إفتراضية
على أرض الواقع أظهرت دراسات حديثة أن أكثر من 70% من مستخدمى الواقع الافتراضى من تطبيقات مثل إنستغرام وتيك توك، يشعرون بعدم الرضا عن شكلهم بعد تصفح الصور والمنشورات، إذ تروج هذه المنصات لمظهر »مثالى» يعتمد على البشرة الصافية، الشفاه الممتلئة، الأنف النحيف، والجسم المتناسق، وهى ملامح يصعب الوصول إليها طبيعيًا.
وبحسب دراسة من الجمعية الأميركية للجراحة التجميلية (ASPS)، فإن عدد عمليات التجميل التجميلية غير الجراحية زاد بنسبة 40% منذ عام 2016، ومعظم الطلبات تركزت على تحسين مظهر الوجه بما يتماشى مع الصور المعدلة على التطبيقات.
بين الحرام والمباح
خطورة تلك الظاهرة لا تتوقف عند حدود المظاهر الاجتماعية؛ فالدين الإسلامى أولى هذا الملف عناية خاصة، محددًا ضوابط دقيقة بين ما يُعد علاجًا أو إصلاحًا لعيب خلقى أو حادث طارئ، وما يدخل فى باب التغيير المذموم.

فقد أوضح الدكتور نظير محمد عياد، مفتى الجمهورية، أن الشرع الشريف راعى فطرة المرأة وحبها للزينة، فأباح لها التزين ما لم يكن فيه تدليس أو مفسدة أو تغيير جوهرى فى الخِلقة، لافتًا إلى أن الجراحات التجميلية التى تهدف إلى إعادة ما أفسده الحادث تأخذ حكم الحاجة، والحاجة تنزل منزلة الضرورة.
وأضاف عياد أن الأصل فى هذا النوع من الجراحات والإجراءات التجميلية، كتجميل الأنف أن يكون لإزالة تشوهٍ أو ضررٍ نفسى أو حسى لحق بالمصاب، مشددًا على أن الحكم الشرعى يجيزها ما دامت العملية مقصورة على إعادة الشكل الطبيعى دون مبالغة أو زيادة غير لازمة.
وأكد فضيلة المفتى من أنه لا مانع شرعًا من إجراء عملية تجميلية للأنف لإعادته إلى شكله الطبيعى بعد تعرضه لحادث، موضحًا أن مثل هذه العمليات تدخل فى باب الطب والعلاج، وليست من قبيل تغيير خلق الله.
واستشهد عياد بما ورد عن أهل العلم من أن إزالة التشوهات أو إصلاح ما يسبب أذى نفسى أو جسدى جائز شرعًا، بخلاف العمليات التجميلية التى يقصد منها مجرد المبالغة فى الحسن دون وجود سبب علاجى.
وختم مفتى الجمهورية تصريحه مؤكدًا أن العمليات التى تعيد العضو إلى صورته الأولى بعد الضرر لا تدخل فى النهى عن تغيير خلق الله، وإنما تعد من جملة وسائل التداوى المباحة التى أجازها الشرع الشريف.
وفيما يتعلق باستخدام حقن البوتكس والفيلر، أوضح الشيخ محمود شلبى، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أنه يجوز إذا كان هناك ضرورة طبية أو حاجة ملحة، وذلك بعد استشارة الطبيب المختص والتأكد من خلوه من الضرر، أما اللجوء إليه لمجرد الرغبة فى التجميل دون داعٍ معتبر، فغير جائز.
وشدد على أن المسلم مطالب بالأخذ بالأسباب فى التداوى، مستشهدًا بحديث النبى صلى الله عليه وسلم: «تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا»، قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: «الهرم» (رواه الترمذي).
ونبه شلبى على أن عمليات التجميل فى أصلها تنقسم إلى نوعين، الجائز منها: ما كان لعلاج مرض أو لإعادة العضو المصاب إلى وضعه الطبيعى، أو لإزالة تشوهات خلقية أو طارئة، أو للتخفيف من آثار الشيخوخة، أو لحاجة معتبرة كالتزين للزوج.
وضرب مثالًا بما ورد عن عرفجة بن أسعد رضى الله عنه، الذى أُصيب أنفه فاتخذ أنفًا من فضة فأنتن عليه، فأمره النبى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفًا من ذهب لما فيه من إزالة للأذى، وهو ما يثبت مشروعية إزالة العيب والتشوه.
أما غير الجائز: هو ما كان لمجرد التجميل دون حاجة أو ضرورة، إذ لا يصح شرعًا العبث بخلق الله من غير سبب معتبر.

وفى هذا السياق شدد الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية السابق، أن الشرع يمنع أى صورة من صور التدليس أو التغرير؛ إذ إن تغيير الخِلقة لمجرد الكذب أو التضليل أمر محرم يأثم به فاعله.
وأضاف أنه يجوز للمرأة المتزوجة اللجوء للبوتكس بغرض التزين والتجمل لزوجها، إذا كان بإذنه وبعد مراجعة الطبيب المختص، بل قد يكون ذلك مستحبًّا إذا قصدت به تحقيق المودة والرحمة داخل الأسرة.
مخاطر صحية

حذَّر الدكتور محمود صديق، نائب رئيس جامعة الأزهر للدراسات العليا والبحوث وعضو مجمع البحوث الإسلامية، من خطورة الانسياق وراء عمليات التجميل لغير ضرورة طبية أو خارج الضوابط الشرعية، مؤكدًا أنها قد تتحول إلى نوع من الهوس والهوى النفسى، وأن الإفراط فيها قد يؤدى إلى تشوهات وأضرار جسيمة تصل فى بعض الحالات إلى الوفاة.
وأكد صديق أن جراحات التجميل مشروعة عند الحاجة، كإصلاح التشوهات الناتجة عن الحوادث أو العيوب الخلقية أو الأمراض، أما التدخل لمجرد تغيير الخِلقة أو ملاحقة مظاهر التقدم فى العمر فلا يجوز شرعًا لما فيه من اعتراض على سنن الله فى خلقه.
وأشار نائب رئيس الجامعة إلى أن الإفراط فى هذه العمليات قد يقود إلى إدمان نفسى ووهم زائف بالرضا، فضلًا عن أن المواد المستخدمة فيها غير دائمة، وتتسبب فى أضرار وتشوهات يصعب علاجها لاحقًا، كما نبه إلى خطورة بعض الإجراءات مثل عمليات شفط الدهون المتكررة، التى قد تنتهى بوفاة المريض.
الدكتور محمد حميدة، استشارى جراحات التجميل
من جانبه أكد الدكتور محمد حميدة، استشارى جراحات التجميل، أن هناك بالفعل ما يسمى بهوس عمليات التجميل أو اضطراب تشوه الجسم، وهو اضطراب نفسى يدفع المصاب به إلى الإقبال على عدد كبير من الجراحات دون توقف، حتى وإن لم يكن هناك عيب حقيقى يستدعى التدخل الجراحى. وأوضح أن هذا السلوك قد يحول حياة المريض إلى دائرة مغلقة من العمليات بحثًا عن الكمال، وهو أمر مستحيل ويعرض صاحبه لمضاعفات صحية خطيرة قد تصل إلى التشوه أو فقدان الإحساس أو حتى الإصابة بالجلطات.
وأضاف حميدة أن هناك عدة عوامل وراء هذا الاضطراب مثل خلل كيمياء المخ أو التعرض للتنمر فى الصغر أو السعى المفرط إلى الكمال، مشيرًا إلى أن التجميل يكون ضرورة فقط فى حالات محددة مثل إصلاح العيوب الخلقية أو معالجة آثار الحوادث، أما الإكثار منه بلا سبب طبى واضح فيحمل مخاطر تفوق الفوائد. وشدد على أهمية الدعم النفسى قبل الجراحة، والحرص على اختيار طبيب متخصص مع إجراء الفحوصات اللازمة لتجنب المضاعفات.
الجانب النفسي
أما عن الجانب النفسى قالت الدكتورة هدى سلامة، أستاذة الأمراض النفسية والعصبية بجامعة الإسكندرية، إن مواقع التواصل الاجتماعى تغذى لدى كثيرين شعور النقص وتضعف احترام الذات، لا سيما عند فئة المراهقين، محذرة من أن هذا التأثير قد يتطور أحيانًا إلى اضطرابات نفسية خطيرة مثل «اضطراب تشوُّه الجسم».
وأضافت هدى أن هذا الاضطراب يمثّل واحدًا من أخطر الآثار النفسية للاستخدام المفرط للسوشيال ميديا، حيث يتركز تفكير الفرد على عيب بسيط —أو لا وجود له أصلًا— فى مظهره، ما يولّد شعورًا عميقًا بالخجل والقلق ويدفع بعض المصابين لتجنب الاختلاط الاجتماعى خشية نظرات الآخرين.
وأوضحت أن المرضى غالبًا ما يلجأون إلى عمليات تجميل متكررة فى محاولة يائسة لتصحيح ما يرونه عيبًا، لكنهم نادرًا ما يشعرون بالرضا، لأن المشكلة ليست فى الشكل الخارجى بل فى الإدراك الذاتى المشوَّه.
فى النهاية، يظل هوس التجميل مرآة تعكس صراعًا عميقًا بين الإنسان وصورته أمام نفسه وأمام المجتمع الذى ازداد شراسة مع السوشيال ميديا، فبين ضغوط المعايير الزائفة للجمال وتحذيرات الدين من الإفراط فى تغيير الخِلقة، تبقى الحقيقة أن الجمال لا يقاس بالملامح المصطنعة، بل بالثقة والرضا الداخلى. والسؤال الذى يفرض نفسه: هل سنظل نطارد وهم الكمال حتى نفقد ذاتنا، أم سنتعلم أن نحتفى بما منحنا الله من جمال طبيعي؟