تشهد القارة الأفريقية موجة متصاعدة من الأزمات الأمنية والتمردات المسلحة التي تنذر بإعادة رسم موازين القوة في مناطق شديدة الهشاشة. من الكونغو الديمقراطية حيث يتجدد الصراع العرقي والسياسي بين الجيش والميليشيات المتحالفة معه، مرورًا بتصعيد القوات الديمقراطية المتحالفة التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، وصولًا إلى حصار مالي من قبل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وانتهاءً بالمعركة الشرسة في مدينة الدهيري بالصومال، تتقاطع خطوط الأزمات في مشهد معقد يجمع بين العنف المسلح، والانقسامات العرقية، والتدخلات الإقليمية، وصعود التنظيمات المتطرفة.
هذا التمدد المتوازي للجماعات المتمردة والمتشددة يكشف عن أزمة أعمق من حدود المعارك الميدانية، فهي أزمة دولة هشة، وجيوش عاجزة عن السيطرة على أراضيها، وسلطات سياسية تواجه فقدان الشرعية تحت وطأة العنف والابتزاز. كما أن ارتباط هذه الجماعات بشبكات إقليمية عابرة للحدود – سواء عبر الدعم اللوجستي أو التحالفات السياسية والعسكرية – يجعل التهديد متجاوزًا للإطار المحلي، ويهدد بتحويل أقاليم بأكملها إلى ساحات مفتوحة لصراعات ممتدة.
جمهورية الكونغو الديمقراطية والتوترات العرقية
تشهد مقاطعة جنوب كيفو شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية فصلًا جديدًا من التوترات العرقية والسياسية، بعدما أشعلت ميليشيا وازاليندو الموالية للحكومة موجة احتجاجات ضد قرار عسكري مثير للجدل بنشر جنرال من أصول بانيامولينغي في أوفيرا. الأحداث التي ترافقت مع خطاب عدائي وتحريض ضد المدنيين من أقلية البانيامولينغي كشفت مجددًا هشاشة سيطرة الدولة على الميليشيات المتحالفة معها، ووضعت جهود الوساطة الدولية في مهب الريح، خصوصًا بعد تحذيرات منظمات حقوقية من خطر انزلاق الأوضاع إلى موجة جديدة من العنف العرقي.
أزمة أوفيرا
أجّج مقاتلو ميليشيا وازاليندو الموالون للحكومة الكونغولية التوترات العرقية في إقليم جنوب كيفو، بعدما خرجوا في احتجاجات واسعة ضد قرار عسكري مثير للجدل.
ففي الأول من سبتمبر، نشرت القوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية الجنرال أوليفييه غاسيتا في مدينة أوفيرا، مركز مقاطعة جنوب كيفو. غاسيتا، وهو من أبناء المنطقة، ينحدر من أقلية البانيامولينغي ذات الأصول التوتسية التي استوطنت المقاطعة منذ أجيال، ما أثار اعتراضات قوية من فصائل محلية.
وعلى خلفية هذا القرار، سيطر آلاف من مقاتلي وازاليندو ومسؤولي المجتمع المدني على أوفيرا، ونظموا تظاهرات شلّت المدينة بين ٢ و٩ سبتمبر. المحتجون جدّدوا اتهاماتهم للجنرال غاسيتا وضباط آخرين بالتقصير في مواجهة هجوم حركة إم٢٣ المدعومة من رواندا، والتي تمكنت من السيطرة على مدينة بوكافو مطلع العام الجاري.
وفي محاولة لاحتواء الأزمة، أكدت الحكومة الكونغولية دعمها للجنرال غاسيتا، وأوفدت وفدًا رسميًا بقيادة نائب رئيس وزراء الداخلية إلى أوفيرا منتصف سبتمبر، في مسعى لـ"استعادة سلطة الدولة" والتفاوض مع قادة وازاليندو.
تصاعد العداء
اتهمت جماعة وازاليندو الموالية للحكومة الكونغولية الجنرال أوليفييه غاسيتا بالعمالة لرواندا والتعاون مع حركة "٢٣ مارس"، في خطوة اعتبرها مراقبون محاولة متعمدة لإشعال التوترات العرقية في إقليم جنوب كيفو.
وخلال الاحتجاجات التي شهدتها مدينة أوفيرا مطلع سبتمبر، صعّد مقاتلو وازاليندو من خطابهم العدائي، إذ وصف ممثل جنوب كيفو في البرلمان الوطني جاستن بيتاكويرا – الخاضع لعقوبات أوروبية منذ ٢٠٢٢ بسبب خطاب الكراهية – الجنرال غاسيتا بأنه "رواندي" و"عميل مزدوج".
وتجاوزت الأزمة حدود الاتهامات، بعدما منح مقاتلو وازاليندو المدنيين من أقلية البانيامولينغي إنذارات لمغادرة أوفيرا، مهددين بما أسموه "عملية لإعادة التوتسي إلى رواندا". تقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش في ١٥ سبتمبر أكد أن الجماعة قامت بعمليات "تحرش وتهديد وخطف وتقييد وصول" المدنيين من البانيامولينغي إلى الخدمات الأساسية. وحذرت منظمات حقوقية عدة من مخاطر تفاقم العنف العرقي في المنطقة.
وترى تقارير دولية أن هذه الانتفاضة تكشف هشاشة سيطرة الحكومة الكونغولية على حلفائها من وازاليندو، إذ إن الجماعة، رغم تحالفها العسكري مع الجيش الكونغولي، ليست جزءًا من جهود السلام التي ترعاها الولايات المتحدة وقطر. ورغم أن وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الدوحة بين الكونغو ورواندا مطلع ٢٠٢٥ ساهم في خفض مستوى العنف، إلا أنه فشل في الحد من المواجهات المباشرة بين مقاتلي وازاليندو وحركة "٢٣ مارس".
كما أشارت الأمم المتحدة في تقرير لها في يوليو الماضي إلى أن الجيش الكونغولي "لا يزال يعتمد بشكل ممنهج" على وازاليندو والجماعات المسلحة المناهضة لرواندا في معاركه ضد الحركة المتمردة. ومع ذلك، يرفض مقاتلو وازاليندو مرارًا نتائج مبادرات السلام ويطالبون بإشراكهم رسميًا في العملية التفاوضية، وهو ما كرروه مجددًا في احتجاجات أوفيرا الأخيرة.
سلام هش
تواجه مفاوضات السلام في شرق الكونغو الديمقراطية عقبات كبرى في ظل عجز الجيش الحكومي عن ضبط ميليشيا وازاليندو، الحليف العسكري غير المنضبط الذي يضم أكثر من ٧٠ قائدًا فرعيًا في جنوب كيفو وحدها.
ورغم أن اتفاق السلام الذي رعته الولايات المتحدة بين الكونغو ورواندا في يونيو ألزم الطرفين بدعم عمليات فك الارتباط ونزع السلاح وإعادة الدمج، إلا أن الجيش والميليشيا ما زالا يحتفظان بسلاسل قيادة منفصلة، ما يعقد أي محاولة لدمج أو تسريح مقاتلي وازاليندو.
التجربة السابقة تزيد المخاوف، إذ فشلت محاولات محلية ودولية على مدى العقدين الماضيين في إعادة دمج الميليشيات والجماعات الدفاعية، الأمر الذي أبقى دائرة العنف مشتعلة منذ نهاية حرب الكونغو الثانية. ويعترف المتحدث باسم الجيش الكونغولي نفسه، في تصريحات أوائل سبتمبر، بأن القوات المسلحة غير قادرة على فرض سيطرة كاملة على وازاليندو رغم تحالفها معها.
وفي موازاة ذلك، يحذر مراقبون من أن العنف العرقي ضد البانيامولينغي سيمنح ذريعة أكبر لحركة "إم٢٣" وربما رواندا للتدخل مجددًا في جنوب كيفو.
إذ تتهم وازاليندو هذه الأقلية بأنها غير كونغولية وتدعم المتمردين، بينما تصف حركة إم٢٣ الخطاب العدائي ضد البانيامولينغي بأنه امتداد لأيديولوجية الإبادة الجماعية في رواندا عام ١٩٩٤. المتحدث باسم الحركة شبّه هجمات وازاليندو الأخيرة في أوفيرا بما حدث في غوما قبل أن تسيطر عليها الحركة، محذرًا من تكرار السيناريو.
أخيرا
أزمة أوفيرا لم تكن مجرد خلاف محلي حول تعيين جنرال، بل جسدت عمق المعضلة الكونغولية: جيش يعتمد على ميليشيات لا يملك السيطرة عليها، وعنف عرقي يهدد بتكرار مآسي الماضي، واتفاقيات سلام تبقى حبرًا على ورق أمام تعقيدات الواقع الميداني.
وبينما تواصل وازاليندو رفضها الانخراط في جهود السلام، تتزايد المخاوف من أن تجد حركة إم٢٣ ومعها رواندا مبررًا جديدًا لتوسيع تدخلها في شرق الكونغو، ما يجعل مستقبل الاستقرار في المنطقة رهين معالجة جذرية لملف الميليشيات والعنف العرقي.
مجزرة لوبيرو تكشف استراتيجية جديدة لتنظيم الدولة
كما تشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية تصعيدًا دمويًا غير مسبوق تقوده القوات الديمقراطية المتحالفة (ADF)، المعروفة محليًا بولاية وسط أفريقيا التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية. فمنذ يوليو الماضي، تحولت قرى شمال كيفو وإيتوري إلى مسرح لمجازر مروّعة أسفرت عن مئات القتلى وعشرات المختطفين، كان أبرزها "مجزرة لوبيرو" التي راح ضحيتها أكثر من ١٠٠ مدني. وتكشف هذه الهجمات عن تحول استراتيجي للجماعة المتشددة، التي باتت تستهدف المدنيين بشكل متزايد ردًا على الضغوط العسكرية المشتركة بين الكونغو وأوغندا.
مجزرة لوبيرو
في واحد من أعنف الهجمات التي شهدتها جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ العام الماضي، قتلت ولاية وسط أفريقيا التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (ISCAP)، المعروفة محليًا باسم القوات الديمقراطية المتحالفة (ADF)، أكثر من ١٠٠ مدني في قرية بمنطقة لوبيرو الغربية في شمال كيفو، يوم ٨ سبتمبر.
الهجوم، الذي استهدف قرية نتويو الواقعة على بُعد نحو ٣ أميال من بلدة مانجوريدجيبا، أسفر أيضًا عن اختطاف نحو ١٠٠ شخص، وفق تقارير إعلامية محلية. وتسبب الاعتداء في موجة نزوح كبيرة من سكان المنطقة، وسط تصاعد المخاوف من توسع نفوذ الجماعة المتشددة. ويعد هذا الهجوم الأعنف في لوبيرو منذ أن بدأت قوات التحالف الديمقراطية توسعها في المنطقة منتصف عام ٢٠٢٤.
الهجوم الأخير يأتي ضمن حملة دموية متصاعدة للجماعة خلال الأشهر الثلاثة الماضية. فمنذ يوليو الماضي، نفذت قوات التحالف الديمقراطية سلسلة هجمات واسعة النطاق على المدنيين:
في أوائل يوليو، قتلت ما لا يقل عن ٧٠ مدنيًا قرب الحدود بين إيتوري وشمال كيفو.
في أواخر يوليو، أقدمت على مجزرة في كنيسة بإيرومو أسفرت عن مقتل ٤٩ شخصًا.
منتصف أغسطس، قتلت الجماعة نحو ٤٧ مدنيًا في هجوم آخر بلوبيرو.
وفي ٩ سبتمبر، نفذت هجومًا إضافيًا في منطقة بيني بشمال كيفو أودى بحياة ١٨ شخصًا.
وبذلك، يرسّخ هجوم نتويو موقعه كأكثر العمليات دموية في سلسلة اعتداءات مستمرة تهدف لترهيب السكان وفرض حضور التنظيم في شرق الكونغو.
تصعيد دموي
تشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية موجة عنف غير مسبوقة، إذ نفذت القوات الديمقراطية المتحالفة (ADF)، المعروفة محليًا بولاية وسط أفريقيا التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، حملتها الأكثر دموية منذ مطلع ٢٠٢٥. ووفقًا لبيانات مشروع الصراع المسلح والحدث، قتلت الجماعة ما لا يقل عن ٣٧٦ مدنيًا منذ يوليو الماضي، وهو رقم لا يفوقه سوى حصيلة ديسمبر ٢٠٢٤ – فبراير ٢٠٢٥، حين قُتل ٥٠٨ مدنيين.
تأتي هذه الهجمات كرد مباشر على عملية "الشجاع"، وهي حملة عسكرية مشتركة بين الجيشين الكونغولي والأوغندي ضد معاقل الجماعة. ففي منتصف يوليو، تمكنت القوات المشتركة من طرد المتمردين من أحد أبرز معاقلهم في إيتوري، ما دفع الأخيرة إلى تكثيف اعتداءاتها على المدنيين لإظهار القوة وتحويل مسار الضغط العسكري.
وأكد شهود محليون أن مقاتلي ADF أبلغوا السكان بأن الهجمات التي استهدفتهم منذ يوليو جاءت انتقامًا من عملية "الشجاع". وبحسب خبراء ومؤسسات بحثية، تسعى الجماعة عبر هذه الاستراتيجية إلى:
تشتيت القوات المشتركة وإجبارها على إعادة توزيع مواردها.
إظهار قدرتها على الصمود رغم الخسائر الميدانية.
استغلال الثغرات الأمنية لشن عمليات منسقة وواسعة.
ويرى محللون أن ارتفاع وتيرة العنف يتزامن أيضًا مع موسم الجفاف بين مايو وأغسطس، وهي فترة لطالما استغلتها الجماعة لزيادة تحركاتها وتنفيذ هجمات واسعة في شمال كيفو وإيتوري.
الخاتمة
الهجمات الأخيرة تثبت أن خطر القوات الديمقراطية المتحالفة لم يعد محصورًا في نطاقها التقليدي، بل يمتد ليهدد الأمن والاستقرار الإقليمي برمته. ومع تصاعد العنف وارتفاع حصيلة الضحايا، تبدو الحاجة ملحة لتكثيف الجهود العسكرية والأمنية، بالتوازي مع مقاربة إنسانية تضمن حماية المدنيين ومنع تمدد الجماعة. فالمعركة ضد ISCAP لم تعد مجرد مواجهة مسلحة، بل اختبار لقدرة المنطقة على كسر دائرة العنف والإرهاب المستمرة.
حصار النفط.. ورقة الجماعات المتشددة لابتزاز مالي
تدخل مالي مرحلة جديدة من عدم الاستقرار مع اتساع نطاق حصار جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لغرب البلاد، عبر ضربات نوعية استهدفت ناقلات النفط الحيوية للاقتصاد الوطني. ففي غضون أيام قليلة، تحولت الطرق الحيوية بين المدن إلى ساحات مفتوحة للكمائن، ما كشف هشاشة المجلس العسكري وفشله في حماية شرايين الطاقة، وزاد من مخاطر شلل اقتصادي يهدد حياة الملايين.
حصار الوقود
صعّدت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نطاق حصارها لغرب مالي، بعدما نفذت أكبر هجماتها منذ بدء الحصار. ففي يومي ١٣ و١٤ سبتمبر/أيلول، نصبت الجماعة كمينًا لقافلتين تضمّان نحو ٩٠ و٨٠ ناقلة نفط على التوالي، حيث فرّ الجنود المرافقون تاركين المجال للمهاجمين لإشعال النار في ما لا يقل عن ٦٠ ناقلة بشكل جماعي.
تأتي هذه الهجمات ضمن حملة أوسع تهدف إلى نزع الشرعية عن المجلس العسكري وزعزعة استقرار اقتصاد غرب مالي. وكانت الجماعة قد أعلنت في يوليو/تموز حصارًا شاملًا على مدينتي كايس ونيورو، قبل أن تبدأ في تنفيذ تهديداتها بمهاجمة ناقلات الوقود منذ ٣ سبتمبر/أيلول. ومنذ ذلك الحين، شنّت سبع هجمات استهدفت ناقلات وقود وحافلات في مناطق متفرقة من جنوب وغرب مالي.
كما وسّعت الجماعة نطاق استهدافها ليشمل الشركات الأجنبية في البلاد، مهددة منذ يونيو/حزيران بوقف أي نشاط لا يحصل على إذن مباشر منها، في خطوة تعكس سعيها لفرض نفوذها على مفاصل الاقتصاد المالي.
أزمة شرعية
تواجه حكومة مالي العسكرية اختبارًا صعبًا مع تصاعد هجمات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التي وسّعت نطاق حصارها لغرب البلاد. فشل المجلس العسكري في حماية القوافل المرافقة، رغم تكثيف الدوريات الجوية والبرية، أضعف مصداقيته كضامن للأمن، خاصة مع اعتماد المسلحين على مجموعات صغيرة قادرة على نصب كمائن تستهدف أهدافًا هشة.
ويرجّح مراقبون أن استمرار انعدام الأمن سيدفع رجال الأعمال إلى إبرام صفقات مباشرة مع الجماعة أو الامتناع عن نقل الوقود، وهو ما من شأنه تسريع تآكل شرعية المجلس العسكري. ورغم نفي المجلس وجود حصار، كشفت تقارير عن اجتماع عُقد في ١٦ سبتمبر مع خبراء نفطيين لمناقشة تداعيات الهجمات. وأكد رئيس الوزراء عبد الله مايغا حينها أن إجراءات واسعة اتُخذت لتأمين طرق الإمداد.
لكن الخطر الأكبر يتمثل في تهديد انقطاع الإمدادات النفطية، إذ حذرت مصادر رسمية من أن البلاد قد تواجه نفاد الوقود في غضون أسبوعين إذا توقفت الشحنات القادمة من السنغال وكوت ديفوار، اللتين تؤمنان نحو ٩٥٪ من احتياجات مالي من النفط. سيناريو كهذا قد يطلق موجة تضخم حادة تطال أسعار الوقود والغذاء، ما قد يشل الاقتصاد الوطني ويُفجّر الغضب الشعبي في المدن الكبرى.
وتأتي هذه التطورات في وقت يواجه فيه المجلس العسكري ضغوطًا داخلية متزايدة، بعد الكشف عن مؤامرة انقلابية مزعومة في أغسطس، فُسرت على أنها انعكاس لصراعات داخلية وتنامي الاستياء من تدهور الوضع الأمني.
أخيرا
تبدو الأزمة مرشحة للتصاعد في ظل عجز المجلس العسكري عن إيجاد رد فعّال على تكتيكات الجماعة، التي تجمع بين الحصار الاقتصادي وضرب الشرعية السياسية. وإذا ما تحققت توقعات نفاد الوقود خلال أسابيع، فإن مالي قد تواجه أزمة مركّبة من نقص الإمدادات، وانفجار الأسعار، وتراجع الثقة الشعبية، وهو ما يمنح الجماعة المتشددة أوراق ضغط إضافية في صراعها مع الدولة.
معركة الدهيري: اختبار صمود الدولة الصومالية أمام تمدد الشباب
يشهد الصومال فصلًا جديدًا من الصراع مع حركة الشباب، التي كثّفت هجماتها في وسط البلاد لتؤكد قدرتها على استنزاف القوات الحكومية وتحدي نفوذها. ففي مدينة الدهيري، خاضت قوات الأمن الصومالية مواجهة شرسة مع مقاتلي الحركة، انتهت باستعادة السيطرة على المدينة بدعم جوي أمريكي. غير أن الهجوم كشف عن هشاشة المكاسب التي حققتها الحكومة خلال الأعوام الماضية، وأعاد إلى الواجهة التساؤلات حول قدرة الدولة الفيدرالية على مواجهة التنظيم الذي يسعى لإعادة ترسيخ حضوره وتوسيع نطاقه.
هجوم الدهيري
صدّت قوات الأمن الصومالية هجومًا واسعًا شنّته حركة الشباب على مدينة الدهيري، عاصمة إحدى المقاطعات وسط البلاد، في معركة اعتُبرت اختبارًا كبيرًا لقدرة الجيش الوطني الصومالي على الصمود.
وبحسب تقارير ميدانية، انطلق المسلحون من بلدتي ماريج الساحلية وأوسوين الواقعة شمال غرب الدهيري، قبل أن يشنوا هجومًا معقدًا بدأ بسيارة مفخخة تبعها اقتحام مواقع الجيش الوطني. وتمكن المهاجمون من التقدم إلى داخل مركز المدينة، إلا أن القوات الصومالية ردّت بهجوم مضاد مدعوم بضربة جوية من القيادة الأمريكية في أفريقيا، ما ساعد على استعادة السيطرة. وأعلنت وزارة الدفاع مقتل نحو ٧٠ مسلحًا خلال العملية.
ورغم هذا النجاح العسكري، تكشف المعركة عن التحديات المتزايدة التي تواجهها الحكومة الفيدرالية. فقد تمكنت حركة الشباب من قلب معظم المكاسب التي حققتها العملية العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة بين عامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣. وتُعد الدهيري واحدة من عاصمتين فقط للمقاطعات اللتين استعادتهم الحكومة وما زالتا تحت سيطرتها حتى الآن.
كما عزلت الحركة المدينة عن خطوط الإمداد بقطع الاتصال مع مدينة أدالي في شبيلي الوسطى، وربطت مجددًا مناطق نفوذها بين الجنوب ووسط البلاد، بل واستعادت مساحات أوسع مما كانت تسيطر عليه قبل هجوم ٢٠٢٢، ما يضع الحكومة أمام تحدٍ استراتيجي جديد في حربها مع التنظيم.
تهديد مستمر
رغم خسارتها الأخيرة في الدهيري، لا يُتوقع أن تتوقف حركة الشباب عن حملتها العسكرية في وسط الصومال. فقد نجحت الجماعة في فرض حصار فعلي على المدينة، وسيطرت على الطريق الساحلي الحيوي الذي يربطها هرارديري شمالًا ومقديشو عبر أدالي جنوبًا، ما يمنحها القدرة على مواصلة الضغط والهجمات.
تستغل الحركة مناطق دعمها كنقاط انطلاق لعمليات متقدمة، تشمل تصنيع السيارات المفخخة، في وقت تُظهر فيه مؤشرات متزايدة على استعدادها لاستعادة هرارديري، ثاني عاصمة مقاطعة ما زالت الحكومة الفيدرالية تحتفظ بها في المنطقة. وبالفعل، كثفت الحركة هجماتها في مقاطعة أدالي بشكل ملحوظ منذ مطلع ٢٠٢٥.
استعادة الشباب للدهيري، إن حدثت، ستمنحها قاعدة ساحلية استراتيجية ومركزًا لوجستيًا يعزز تمددها في وسط الصومال. كما أن السيطرة على الدهيري وهرارديري معًا قد تتيح للجماعة توسيع نطاق تحالفاتها الإقليمية، بما في ذلك التعاون المحتمل مع الحوثيين في اليمن أو شبكات القرصنة الصومالية، ما يفتح الباب أمام مصادر جديدة للأسلحة والإيرادات.
اخيرا
رغم نجاح الجيش الوطني الصومالي في صد هجوم الدهيري، فإن التهديد الاستراتيجي الذي تمثله حركة الشباب يزداد تعقيدًا. فالحصار المفروض على المدينة، والسيطرة على طرق الإمداد، ومحاولات استعادة مواقع حيوية كهرارديري، كلها مؤشرات على أن التنظيم لم يفقد قدرته على المبادرة. وفي ظل هذه التطورات، تبدو الحكومة الصومالية أمام معركة طويلة الأمد، لا تُحسم بالنجاحات التكتيكية وحدها، بل تحتاج إلى استراتيجية شاملة تعالج جذور التمرد وتمنع تمدده الإقليمي.
إن ما يجري في الكونغو ومالي والصومال ليس أحداثًا متفرقة بقدر ما هو انعكاس لنمط متكرر يعكس فشل المعالجات الجزئية للأزمات. فالحلول العسكرية وحدها لم تمنع تمدد حركة الشباب في الصومال، ولم تُنهِ دوامة العنف العرقي في الكونغو، ولم تحصّن مالي من الابتزاز الاقتصادي للجماعات المسلحة. على العكس، أظهرت التطورات الأخيرة أن هذه الجماعات تعيد ابتكار تكتيكاتها باستمرار لتجاوز الضغوط وتوسيع نفوذها.
وأمام هذا المشهد القاتم، تبدو الحاجة ملحّة إلى مقاربة شاملة تعالج جذور التمرد: من ضعف الدولة وتفكك المجتمعات المحلية، إلى غياب التنمية وتهميش الفئات الاجتماعية. من دون ذلك، ستبقى هذه الصراعات تتغذى على أزمات الهشاشة وتستنزف موارد الدول، لتفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الخارجية والتوترات الإقليمية التي تجعل الأمن والاستقرار حلمًا بعيد المنال في قلب القارة الأفريقية.