يواجه العالم خطراً متزايداً يتمثل في تشتت الانتباه الدولي؛ فبينما تصعّد روسيا حربها ضد أوكرانيا بهجمات صاروخية جديدة على كييف أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص، إلى جانب محاولات اغتيال متعددة استهدفت الرئيس فولوديمير زيلينسكي، يبرز الصراع الإيراني–الإسرائيلي كدراسة حالة قوية توضح كيف يمكن للأزمات الإقليمية الناشئة أن تهيمن على العناوين الرئيسية وتحوّل الاهتمام الدولي بعيداً عن معركة أوكرانيا المستمرة من أجل البقاء.
هذا الانقسام في التركيز يمنح موسكو نافذة استراتيجية للتصعيد، في وقت تحاول فيه أوروبا والولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب التوفيق بين أولويات دبلوماسية متزاحمة. النظام الدولي، الذي طالما ارتكز على الردع والتحالفات، يواجه اليوم اختباراً على جبهات متعددة في آن واحد.
التصعيد الروسي المتجدد ضد أوكرانيا
في 23 يونيو، شنّت القوات الروسية ضربات جوية مكثفة بطائرات مسيّرة وصواريخ على العاصمة كييف، ما أسفر عن مقتل عشرة أشخاص على الأقل، إلى جانب الكشف عن مؤامرات لاغتيال الرئيس زيلينسكي.
هذه التطورات تعكس حملة الكرملين المستمرة لزعزعة استقرار الحكومة الأوكرانية واستهداف بنيتها التحتية.
الهجمات الروسية لم تكن مجرد تحركات ميدانية، بل تصعيدات استراتيجية تهدف إلى إضعاف القيادة الأوكرانية وبث اليأس في نفوس المواطنين.
في الوقت نفسه، أرسلت إدارة ترامب إشارات متناقضة بعدما أوقفت المساعدات العسكرية والدعم الاستخباراتي لأوكرانيا في مارس، قبل أن تعيد جزءاً منها لاحقاً.
هذه الترددات أثارت قلق كييف وشجعت موسكو على المضي قدماً في التصعيد، إذ أن كل لحظة غموض غربي تُعد مكسباً استراتيجياً للكرملين الذي يزدهر حين يظهر خصومه منقسمين أو منشغلين.
تصاعد الصراع الإيراني الإسرائيلي وتداعياته العالمية
في خضم الحصار الروسي المتواصل على أوكرانيا، تحوّلت بوصلة الاهتمام الدولي نحو أزمة جديدة في الشرق الأوسط: المواجهة بين إيران وإسرائيل.
فقد شنت إسرائيل ضربات غير مسبوقة داخل الأراضي الإيرانية، ما رفع خطر اندلاع مواجهة إقليمية أوسع، وجعل هذا الملف يهيمن على القدر الأكبر من وقت وجهد واشنطن وأوروبا الدبلوماسي.
وفي مواجهة النشاط النووي الإيراني، أجاز الرئيس ترامب شن ضربات جوية أمريكية استهدفت منشآت نووية أساسية في فوردو ونطنز وأصفهان، بالتنسيق مع إسرائيل.
هذه الخطوة مثلت تصعيداً كبيراً في الانخراط الأمريكي المباشر في الصراع، وعمّقت التوترات الإقليمية في وقت باتت فيه أوكرانيا غائبة نسبياً عن صدارة الاهتمام العالمي.
تكمن خطورة التصعيد الإيراني الإسرائيلي ليس فقط في تداعياته العسكرية، بل أيضاً في قدرته على تغيير اتجاه تركيز المجتمع الدولي.
فقد انشغلت التغطيات الإعلامية والجهود الدبلوماسية بتداعيات الشرق الأوسط، ما قلّص من المساحة الممنوحة لمتابعة تطورات الحرب الأوكرانية.
بالنسبة لروسيا، كان ذلك بمثابة هدية جيوسياسية: فكلما طالت فترة انشغال الغرب بأزمات أخرى، ازدادت قدرة الكرملين على ترسيخ مواقعه وشن هجمات جديدة بعيداً عن دائرة التدقيق الدولي.
روسيا وإيران.. شراكة استراتيجية متنامية
الأزمة لا تجري في فراغ، إذ تعززت الشراكة الاستراتيجية بين موسكو وطهران بشكل لافت. تستفيد روسيا من تزويدها بالطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية لاستخدامها في ساحة المعركة الأوكرانية، بينما تكسب إيران دعماً دبلوماسياً وسياسياً ثميناً من روسيا في صراعها مع إسرائيل.
هذا التعاون تجاوز كونه تبادلات ظرفية، ليصبح اصطفافاً أوسع يسعى إلى تقويض النفوذ الغربي واستغلال الانقسامات الأوروبية والأمريكية.
صادرات السلاح الإيرانية باتت شريان حياة لآلة الحرب الروسية، في حين تمنح موسكو غطاءً سياسياً يخفف الضغوط عن طهران ويزيد نفوذها على الساحة الدولية.
أوروبا في مواجهة ضغوط داخلية وتوازنات خارجية
في أوروبا، يواصل القادة السير على خيط رفيع بين دعم أوكرانيا وإدارة تداعيات التصعيد في الشرق الأوسط.
ورغم التعهدات الكبيرة بتقديم تمويلات أمنية لكييف، فإن تأثير زيلينسكي يبدو متراجعاً مع انحسار الاهتمام الأوروبي بالحرب الأوكرانية.
الأزمة الإيرانية الإسرائيلية تهدد بإرهاق القدرات الدبلوماسية الأوروبية، في وقت تواجه فيه القارة صعود الأحزاب اليمينية المتشددة والضغوط الاقتصادية الناجمة عن التضخم وأزمات الطاقة.
هذه التحديات مجتمعة تنذر بتآكل وحدة الموقف الأوروبي، وهو ما يخدم الأجندة الروسية.
ترامب وإعادة رسم السياسة العالمية.. إعادة معايرة أم انسحاب؟
منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يشهد نهج السياسة الخارجية الأمريكية إعادة تموضع واسعة.
فقد جُمّدت المساعدات العسكرية لأوكرانيا في البداية ثم أعيد بعضها بشروط، في إطار سياسة "أمريكا أولاً" التي تربط الدعم بانخراط كييف في المفاوضات.
كما دفع ترامب حلفاء الناتو لزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مطلب أثار جدلاً واسعاً في أوروبا.
وتدرس الإدارة الأمريكية أيضاً تقليص وجودها العسكري في القارة، مع انفتاح ترامب على إعادة إدماج روسيا في مجموعة السبع وعرض وساطات سلام دون ضمانات قوية، ما أثار قلقاً لدى العواصم الأوروبية.
هذه التحركات خلقت حالة من عدم اليقين، وأضعفت ثقة أوكرانيا في استمرارية الدعم الغربي.
خطر الانشغال الدولي وتآكل الردع
التاريخ يُظهر أن الأنظمة الاستبدادية تستغل لحظات التشتت الغربي لتصعيد أجنداتها. اليوم، مع تركيز الأنظار على الشرق الأوسط، صعّدت روسيا من استهدافها للمدنيين والبنية التحتية في أوكرانيا.
التنسيق مع إيران، سياسياً وعسكرياً، يضيف بعداً جديداً لخطورة الموقف، ويدفع نحو حالة من الفوضى في النظام الدولي القائم على القواعد.
كلما تراجع الاهتمام الدولي بأوكرانيا، ازدادت جرأة موسكو في اختبار الخطوط الحمراء، ما يعزز انطباعاً بأن القوة، وليس القانون، هي التي تحكم النظام العالمي.
الانقسامات السياسية داخل الولايات المتحدة، والتعب المتزايد في أوروبا، يهددان بتحويل الحرب الأوكرانية إلى صراع مجمّد يخدم المصالح الروسية على المدى الطويل.
ولا يمكن التعامل مع أوكرانيا كقضية ثانوية، إن انحراف تركيز الغرب، خصوصاً نحو أزمات الشرق الأوسط، يمنح روسيا فرصاً ثمينة لتصعيد عدوانها وترسيخ مكاسبها.
ورغم الضغوط المتعددة، يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا تجديد التزامهما الثابت تجاه كييف، لأن التراجع عن دعمها يقوّض المبادئ ذاتها التي يدّعي الغرب الدفاع عنها.
وعلى الرغم من أن الدور الأمريكي في أزمة إيران وإسرائيل انتهى مؤقتاً مع التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في 24 يونيو، إلا أن هذه اللحظة كشفت مدى هشاشة التركيز العالمي.
فاندلاع أزمة إقليمية واحدة كان كفيلاً بتهميش حرب مستمرة في قلب أوروبا. هذه التجربة يجب أن تكون بمثابة جرس إنذار: إذا سمح الغرب بأن يواصل تركيزه في التشتت بين أزمات متلاحقة، فلن يخسر أوكرانيا فقط، بل سيفقد أيضاً مصداقيته كقوة قادرة على قيادة النظام الدولي.