يعد الاتفاق السعودي-الباكستاني للدفاع المشترك واحدًا من أبرز التحولات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، إذ يمثل خطوة مهمة لإعادة ترتيب موازين القوة الإقليمية ويبعث برسائل متعددة لكل من اللاعبين الإقليميين والدوليين. فالرسالة الأولى موجهة إلى واشنطن، مفادها أن دورها كضامن وحيد للأمن في المنطقة لم يعد مطلقًا، وأن المملكة بدأت تبحث عن شراكات بديلة لتعزيز أمنها. أما الرسالة الثانية فهي إلى تل أبيب، مفادها أن التوازنات الجديدة قد تفرض مظلة ردع إسلامية قادرة على تغيير معادلة القوة التقليدية، بما يجعل أي اعتداء على المملكة أو باكستان تحت طائلة رد مشترك
نص الاتفاق، الذي وُقّع في الرياض بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، على أن أي عدوان على أحد الطرفين يُعتبر عدوانًا على الطرفين معًا. ويتضمن الاتفاق تعاونًا عسكريًا واسع النطاق يشمل الصناعات الدفاعية، ونقل التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، والإنتاج العسكري المشترك، والتدريب المشترك، وبناء القدرات في مجالات متنوعة مثل الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار والدفاع الجوي. ويؤكد المسؤولون أن الاتفاق شامل ويغطي جميع الوسائل العسكرية
ويأتي هذا الاتفاق في سياق تاريخي طويل من التعاون بين البلدين، خصوصًا في المجال النووي. فبعد التجربة النووية الأولى لباكستان عام 1998، قدمت السعودية دعمًا ماليًا فوريًا بلغ 3.4 مليار دولار، ما مكن باكستان من إجراء اختبار نووي ثانٍ. ومنذ ذلك الحين، اعتُبرت باكستان بمثابة “درع نووي” غير معلن للمملكة، وهو مفهوم يعكس مستوى الثقة الاستراتيجية بين الدولتين. الاتفاق الجديد يعيد تأكيد هذا التعاون، لكنه يوسّعه ليشمل القدرات الدفاعية التقليدية والتكنولوجيا العسكرية، بما يوفر للسعودية بدائل قوية للردع بعيدًا عن الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة.
جاء توقيت الاتفاق في مرحلة حساسة على الصعيد الإقليمي، بعد أيام قليلة من الضربة الإسرائيلية غير المسبوقة على قطر، التي تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط. وقد كشفت هذه الضربة حدود المظلة الدفاعية الأميركية في المنطقة، خاصة بعد أن تعرضت القاعدة نفسها في يونيو الماضي لهجوم إيراني رداً على استهداف أميركي لمنشآت نووية. هذه التطورات دفعت السعودية إلى البحث عن شراكات استراتيجية بديلة تضمن لها قدرة أكبر على حماية مصالحها الحيوية، بما يعكس تغيرًا ملحوظًا في سياسة المملكة تجاه الاعتماد على الضمانات الأمنية الأميركية التقليدية.
ويتيح الاتفاق السعودي-الباكستاني إمكانية التعاون في مجال الصواريخ الباليستية، حيث تمتلك باكستان منظومة صاروخية متقدمة تضم صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وصواريخ قادرة على حمل رؤوس دقيقة التوجيه. وقد أكدت مصادر إقليمية ودولية أن القدرات الصاروخية الباكستانية يمكن أن تُستخدم، من الناحية النظرية، لتوفير مظلة ردع استراتيجية للمملكة، ما يمنح الرياض أدوات قوية للتوازن الإقليمي مع إيران وإسرائيل، دون الحاجة للاعتماد على التدخل المباشر من القوى الكبرى.
كما يشمل الاتفاق تعزيز الصناعات الدفاعية المشتركة، بما في ذلك تصنيع الطائرات بدون طيار، وأنظمة الدفاع الجوي والصواريخ المضادة للصواريخ، والتعاون في مجال التدريب العسكري المتقدم ونقل التكنولوجيا. وهذا التعاون قد يسمح للسعودية بتطوير قدراتها الدفاعية الذاتية بشكل أكبر، ويقلل اعتمادها على الاستيراد الكامل للأسلحة من الولايات المتحدة أو الدول الغربية، وهو ما يعكس توجهًا نحو استقلالية استراتيجية أكبر.
التغطية الإعلامية الدولية للاتفاق أظهرت مدى تأثيره على التوازنات الإقليمية. فقد رأت صحيفة Washington Post الأميركية أن الاتفاق يمثل إعلانًا استراتيجيًا بأن السعودية لم تعد تعتبر الولايات المتحدة الضامن الوحيد لأمنها، وأن القدرات العسكرية لباكستان يمكن أن تشكل قوة ردع محتملة ضد أي تهديد. ومن جانبها، اعتبرت صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية أن الاتفاق يشكل “صدمة استراتيجية”، قد تعيد رسم موازين القوة مع إيران وإسرائيل والهند، مع التأكيد على أن السعودية تمتلك الآن بدائل دفاعية وخيارات ردعية خارج المظلة الأميركية التقليدية.
وعلى صعيد العلاقات الإقليمية، أبدت الهند قلقها من تداعيات الاتفاق على أمنها القومي، فيما شدّد مسؤول سعودي كبير على أن الرياض ستواصل الموازنة بين علاقاتها مع نيودلهي وإسلام آباد، وأن العلاقات مع الهند “أقوى من أي وقت مضى”. وفي باكستان، أظهر التلفزيون الرسمي مشاهد لرئيس الوزراء شهباز شريف وهو يعانق ولي العهد السعودي عقب التوقيع، بحضور قائد الجيش الباكستاني المشير عاصم منير، الذي يُعد الشخصية الأقوى في البلاد، ما يعكس دعم القيادة العسكرية والسياسية الباكستانية الكامل لهذه الشراكة الاستراتيجية. كما أكد بيان رسمي من مكتب رئيس الوزراء أن الاتفاق يعكس التزام البلدين بتعزيز الأمن والسلام في المنطقة والعالم، ويهدف إلى تطوير منظومة دفاعية متكاملة تستجيب للتحديات الإقليمية والدولية.
ويعكس الاتفاق أيضًا رغبة السعودية في إعادة تموضعها الاستراتيجي على مستوى العالم، حيث باتت المملكة تسعى إلى تنويع شراكاتها الدفاعية بعيدًا عن الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة. ورغم استمرار واشنطن كشريك رئيسي في مجالات التسليح والتكنولوجيا، إلا أن الاتفاق يرسل رسالة واضحة بأن تجاهل المخاوف الأمنية السعودية يمكن ان يدفع المملكة إلى تطوير منظومة ردع مستقلة بالتعاون مع قوى مثل باكستان وربما الصين وروسيا، ما يعزز قدرتها على صناعة القرار وتحقيق استقلالية استراتيجية أكبر.
وفي حال استمرت الولايات المتحدة في التردد تجاه تقديم ضمانات أمنية رسمية، فقد تجد نفسها أمام واقع جديد تتحول فيه السعودية وربما دول اخري في الخليج من الاعتماد الاستراتيجي الكامل علي الولايات المتحده الامريكيه إلى امتلاك خيارات متعددة لرسم قواعد اللعبة في المنطقة، مما قد يعيد تشكيل خريطة القوة التقليدية في الشرق الأوسط ويؤسس لمعادل جديدة في العلاقات الإقليمية والدولية، بحيث تصبح المملكة قوة ردع إقليمية لها القدرة على حماية مصالحها وتأمين استقرار المنطقة وفق رؤيتها الاستراتيجية الخاصة.
السفير عمرو حلمي