في السابع عشر من نوفمبر عام 1869، احتفلت مصر والعالم بافتتاح قناة السويس في مشهد أسطوري امتزج فيه البذخ بالرمزية السياسية. فقد دعا الخديوي إسماعيل ملوك وأباطرة أوروبا ليشهدوا افتتاح الممر الملاحي الذي ربط البحرين الأحمر والمتوسط، واضعًا مصر في قلب التجارة العالمية.
بدت فرنسا المنتصر الأكبر في تلك اللحظة، إذ كان المهندس فرديناند ديليسبس رمزًا للفخر القومي الفرنسي، بينما حضرت الإمبراطورة أوجيني لتضفي على المناسبة طابعًا إمبراطوريًا يعكس اعتقاد باريس بأنها وضعت يدها على ورقة استراتيجية ستغير وجه المنافسة مع بريطانيا على الطريق إلى الهند. غير أن الأحداث التي تلت بعد عام واحد فقط قلبت المعادلة رأسًا على عقب، حين انفجرت الحرب الفرنسية – البروسية وسقط نابليون الثالث، لتتحول القناة من رمز لانتصار فرنسي إلى أداة لتعزيز الهيمنة البريطانية، وفقا الصحفي باتريك ماكسويل في مقال على موقع "ذا ارتيكل".
الحرب التي اندلعت في يوليو 1870 كانت نتاج براعة المستشار الألماني أوتو فون بسمارك في إدارة لعبة السياسة. فقد استغل برقية "إمس" ليُظهر أن ملك بروسيا أهين أمام السفير الفرنسي، مما أثار غضب باريس ودفعها لإعلان الحرب. لكن فرنسا دخلت المعركة بلا استعداد كافٍ، فتلقت هزيمة قاسية في سيدان حيث أُسر نابليون الثالث، وسقطت باريس تحت الحصار والقصف. النتيجة لم تكن مجرد هزيمة عسكرية بل انهيار نظام سياسي كامل، إذ سقطت الإمبراطورية الثانية وحلت محلها الجمهورية الثالثة. وفي معاهدة فرانكفورت عام 1871، اضطرت فرنسا للتنازل عن الألزاس واللورين ودفع غرامة مالية هائلة بلغت خمسة مليارات فرنك ذهبي.
هذه الغرامة بدت في البداية عبئًا لا يمكن احتماله، إذ توقع المراقبون أن تغرق فرنسا في الديون لعقود، وأن تفقد أي قدرة على استعادة توازنها. لكن ما حدث كان مفاجئًا: بفضل شبكة روتشيلد المالية، تم إطلاق حملة وطنية ضخمة لإصدار السندات وجمع الأموال. ملايين الفرنسيين ساهموا في شراء هذه السندات بدافع من الكبرياء الوطني، فتحول سداد الغرامة إلى مشروع قومي سرعان ما اكتمل خلال ثلاث سنوات فقط. هذا الإنجاز المالي سمح بخروج القوات الألمانية مبكرًا، لكنه في الوقت نفسه أطلق ديناميكية جديدة في أوروبا، إذ فتح شهية القوى المالية والبنوك الدولية لاستثمار نفوذها في مشاريع استراتيجية أخرى.
وفي تلك الأثناء كانت مصر تعيش أزمة مالية خانقة. فقد وجد الخديوي إسماعيل الذي أنفق ببذخ على القناة والقصور والاحتفالات نفسه غارقًا في الديون الأوروبية. كما أن الإصلاحات الإدارية لم تكن كافية، والضرائب أثقلت كاهل الفلاحين، بينما أغرت القروض السهلة القاهرة بالإنفاق غير المحسوب. الدائنون الأجانب فرضوا رقابة مالية صارمة من خلال لجان أوروبية، وهو ما جعل مصر شبه رهينة للقرار المالي الخارجي. القناة التي حلم بها إسماعيل لتكون مصدرًا للثراء تحولت إلى أحد أسباب سقوطه، إذ أصبحت أسهم مصر في شركة قناة السويس الورقة الأهم على طاولة السياسة الدولية.
وفي عام 1875، تحرك رئيس الوزراء البريطاني بنيامين ديزرائيلي بسرعة وذكاء. فقد علم أن إسماعيل باشا يبحث عن سيولة عاجلة لتغطية التزامات مالية متراكمة، فاستعان بالمصرفي ليونيل روتشيلد لترتيب قرض عاجل، ونجح في شراء 44% من أسهم مصر في الشركة مقابل أربعة ملايين جنيه إسترليني. الصفقة أنجزت في أيام معدودة، وبلا استشارة البرلمان البريطاني، إذ اعتبرها ديزرائيلي مسألة حياة أو موت. بالنسبة له، القناة ليست مجرد مشروع هندسي، بل الشريان الذي يختصر الطريق إلى الهند ويؤمن خطوط الملاحة الإمبراطورية. وهكذا تحولت ورقة القناة من فخر فرنسي إلى كنز بريطاني بفضل أزمة مالية مصرية وحسابات سياسية باردة.
وأشار ماكسويل إلى أن الصفقة لم تمر بلا جدل. فالخصم السياسي وليام جلادستون هاجم العملية بوصفها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ورأى أن دفع الملايين لشراء أسهم في مشروع ما زال حديث العهد قد يكون إهدارًا للمال العام. لكن مرور الوقت أثبت أن ديزرائيلي كان محقًا، إذ سرعان ما أصبحت القناة ركيزة أساسية في الاستراتيجية البريطانية، وجعلت لندن أكثر قدرة على التحكم في التجارة العالمية. حتى في الداخل البريطاني، عززت الصفقة من صورة ديزرائيلي كرجل دولة قادر على اتخاذ قرارات جريئة.
بيد أن السيطرة المالية لم تكن سوى بداية. مع تفاقم الأزمات الداخلية في مصر، وبخاصة تصاعد السخط الشعبي الذي تجسد في الثورة العرابية، وجدت بريطانيا نفسها أمام فرصة للتدخل العسكري المباشر. عام 1882، تدخلت القوات البريطانية بحجة حماية القناة وضمان الاستقرار، فاحتلت مصر وفرضت وصاية عملية استمرت لعقود. بهذا، اكتمل التحول: مشروع حلم به إسماعيل كرمز للنهضة الوطنية تحول إلى أداة لإحكام قبضة بريطانيا على مصر والمنطقة.
لم تكن القناة مجرد ممر مائي، بل نقطة ارتكاز في صراع دولي أوسع. بسمارك الذي أراد عزل فرنسا وجد نفسه ساهم من حيث لا يدري في فتح الباب أمام بريطانيا لتعزيز نفوذها العالمي. الأموال التي دفعتها باريس غرامة للهزيمة تحولت بشكل غير مباشر إلى أداة ساعدت لندن على تمويل توسعها الإمبراطوري. والأهم أن الديون المصرية التي أغرقت البلاد في أزمات سياسية واقتصادية جعلت القرار الوطني خاضعًا لتوازنات أوروبية لم تراعِ مصالح المصريين.
هذا المشهد يعكس درسًا تاريخيًا بالغ الأهمية يلفت إلى أن الهزائم العسكرية قد تفتح المجال لانتصارات غير متوقعة في ميادين المال والسياسة، فقد خرجت فرنسا من حرب 1870 منهزمة لكنها استعادت بعض عافيتها سريعًا بفضل نجاحها المالي في قطاعاتها الداخلية، فيما استغلت بريطانيا تداعيات الأزمة لتأمين أهم ممر مائي في العالم. أما مصر، فكانت الخاسر الأكبر لأنها وجدت نفسها تدفع ثمنًا مزدوجًا كان عبارة عن ديون أثقلت كاهلها، واحتلال مطول حرمها من ثمار مشروع كان من المفترض أن يكون ركيزة لنهضتها.
ومع مرور الزمن، أثبتت الأحداث أن صفقة ديزرائيلي لم تكن مجرد عملية شراء أسهم، بل كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ الشرق الأوسط والعالم. فالقناة أصبحت أحد أعمدة الأمن القومي البريطاني، ومصدرًا لصراعات لا تنتهي حتى القرن العشرين. وما بين حلم إسماعيل، وخطط ديليسبس، ومكائد بسمارك، وحسابات ديزرائيلي، نكتشف أن التاريخ لا يُكتب في ميادين المعارك وحدها، بل أيضًا في غرف المال والبنوك التي تحدد مصائر الشعوب.