تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في سباق فضائي مكثف مع الصين، لكن هذه المرة الوجهة هي القمر والجائزة هي الهيمنة على الاقتصاد الفضائي الناشئ.
و خلال جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي الأسبوع الماضي، حذر سياسيون وخبراء من أن الصين تسير بخطى ثابتة نحو الهبوط المأهول على القمر بحلول عام 2029، ما قد يحول المشهد الجيوسياسي العالمي ويعيد تشكيل موازين القوى في الفضاء. هذه التخوفات لم تأت من فراغ، فالصين تمكنت خلال العقد الماضي من تحقيق سلسلة من الإنجازات الفضائية غير المسبوقة، بما في ذلك إنشاء محطة فضائية دائمة وعينات من الجانب البعيد من القمر وهبوط مركبات على المناطق القطبية .
لماذا القمر مرة أخرى؟
بعد أكثر من نصف قرن على هبوط أول إنسان على سطح القمر، عاد السباق إلى هذا الجسم الفلكي القريب يحظى بأولوية استراتيجية غير مسبوقة، والأسباب هذه المرة تتجاوز مجرد التنافس الرمزي أو العلمي، لتمس صميم الأمن القومي والتفوق الاقتصادي.
وفقاً لتحليلات ناسا، فإن القطب الجنوبي للقمر يحتوي على موارد ثمينة، أهمها المياه المتجمدة التي يمكن تحليلها إلى هيدروجين وأكسجين لاستخدامها كوقود للصواريخ ودعم الحياة البشرية، وهذه الموارد قد تشكل حجر الأساس لأول اقتصاد فضائي حقيقي، حيث يمكن أن يصبح القمر محطة انطلاق للرحلات إلى المريخ وما بعده، ما يجعل الصين والولايات المتحدة تخططان لبناء قواعد دائمة على القمر، والسباق الآن على من يصل أولاً إلى هذه الموارد ويستطيع استغلالها .
جدول زمني متعارض
الخطط المعلنة للطرفين تكشف عن سباق محموم ضد الوقت. الصين تهدف إلى هبوط رواد فضاء على القمر بحلول عام 2029، تزامناً مع احتفالات الذكرى الثمانين لتأسيس الجمهورية الشعبية، بينما الولايات المتحدة، من المقرر أن تهبط مهمة أرتميس 3 على القمر في عام 2027، أي قبل عامين من الموعد الصيني، لكن الخبراء يشككون في التزام الولايات المتحدة بهذا الجدول الزمني، خاصة في ظل التحديات المالية والتقنية التي تواجهها ناسا. فبرنامج أرتميس شهد تأخيرات متعددة، كما أن ميزانية ناسا للسنة المالية 2026 شهدت تخفيضاً تاريخياً بنسبة 24٪، مع إلغاء 47٪ من تمويل البرامج العلمية .
استراتيجية الصين الثابتة
ما يقلق المراقبين في واشنطن هو الاستمرارية والثبات في البرنامج الفضائي الصيني، فمنذ إطلاق أول قمر صناعي عام 1970، وحتى الهبوط التاريخي على الجانب البعيد من القمر عام 2019، تمكنت الصين من بناء برنامج فضائي متكامل دون أن تعيقه التغيرات السياسية أو تقلبات الأولويات .
وحذر جيم برايدنستاين، المدير السابق لناسا، خلال جلسة استماع في الكونجرس من أنه "ما لم يحدث تغيير كبير، فمن غير المرجح أن تسبق الولايات المتحدة الجدول الزمني الذي وضعته الصين" ، فيما يعتمد البرنامج الصيني على التخطيط طويل المدى والاستثمار المستمر، مع تركيز واضح على الأهداف الاستراتيجية مثل بناء محطة تيانغونغ الفضائية وتطوير نظام بايدو للملاحة بالأقمار الصناعية الذي ينافس نظام GPS الأمريكي .
التحديات الأمريكية
في المقابل، يواجه البرنامج الفضائي الأمريكي معضلات متعددة، أبرزها التمويل المتقلب والتغيرات في الأولويات مع كل إدارة جديدة. منذ أيام أبولو، حاولت multiple administrations العودة إلى القمر. في عام 1989، وأعلن جورج بوش الأب عن مبادرة للعودة إلى القمر في العقد الأول من القرن الجديد. ثم جاء ابنه جورج بوش الابن في 2004 وحدد عام 2020 كموعد جديد. وفي 2017، وقع دونالد ترامب توجيهاً فضائياً يستهدف عام 2024. أما جو بايدن فقد جعل العام المقبل الموعد الحاسم، وهذه التغيرات المتكررة في الجداول الزمنية أعاقت تقدم البرنامج الأمريكي، في وقت تسير فيه الصين بخطى ثابتة دون أن تعيقها مثل هذه العوائق .
الأبعاد العسكرية للسباق
السباق إلى القمر لا يخلو من أبعاد عسكرية واستراتيجية مثيرة للقلق. الجنرال تشانس سالتزمان، رئيس العمليات في قوة الفضاء الأمريكية، حذر في جلسات استماع بالكونغرس من أن الصين تستثمر بكثافة في ست فئات من الأسلحة الفضائية، بما في ذلك أنظمة الطاقة الموجهة والترددات الراديوية والأسلحة الحركية .
وتمتلك الصين حالياً 157 قمراً عسكرياً، مقابل 246 للولايات المتحدة، لكن وتيرة الإطلاق الصينية تتسارع بشكل مقلق . وفقاً لتقديرات استخبارات الدفاع الأمريكية، زاد عدد الأقمار الاصطناعية الصينية في المدار بنسبة 620% خلال العقد الماضي، ومن المتوقع أن يصل عددها إلى أكثر من 14 ألف قمر اصطناعي بحلول 2030 .
تعاون دولي وشراكات إستراتيجية
لا يقتصر السباق على الجانبين الأمريكي والصيني فقط، بل يمتد ليشمل شبكة معقدة من الشراكات الدولية. الصين تتعاون مع 23 دولة أفريقية في مجال الفضاء، بما في ذلك مصر التي أنشأت مركز تجميع واختبار الأقمار الصناعية في القاهرة بالتعاون مع الصين . هذه الشراكات تتيح للصين الوصول إلى بيانات الأقمار الصناعية والتلسكوبات، بالإضافة إلى وجود دائم في المرافق التي تبنيها في هذه الدول . في المقابل، تقود الولايات المتحدة اتفاقيات أرتميس، وهي مجموعة من المبادئ المصممة لتوجيه استكشاف الفضاء المدني، و الصين وروسيا ليستا من الدول الموقعة على هذه الاتفاقية .
ماذا عن اللاعبين الآخرين؟
رغم أن السباق يتركز حالياً بين الصين والولايات المتحدة، إلا أن هناك لاعبين آخرين يسعون للحصول على موطئ قدم على القمر. الهند أصبحت رابع دولة تُجري هبوطاً بالقرب من القطب الجنوبي للقمر في أغسطس الماضي . كما تعمل روسيا على برنامج قمري بالتعاون مع الصين، مع العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ غزو أوكرانيا أثرت على قدراتها . حتى الشركات الخاصة دخلت السباق، حيث تخطط الشركة الصينية "سي إيه إس سبيس" لإطلاق رحلات سياحة فضائية بحلول عام 2027 .
تحديات تقنية واقتصادية
السباق إلى القمر لا يخلو من تحديات تقنية هائلة. أحد أكبر العقبات هي توفير مصدر طاقة مستدام للقواعد القمرية المستقبلية. في المناطق القطبية من القمر، يستمر الليل لمدة أسبوعين تقريباً، مما يجعل الاعتماد على الطاقة الشمسية وحده غير عملي . كحل محتمل، تسارع الولايات المتحدة جهودها لبناء مفاعل نووي على سطح القمر بحلول عام 2030 .
وتتعاون الصين وروسيا أيضاً في مشروع مماثل يستهدف منتصف العقد المقبل . هذه المشاريع تثير تساؤلات قانونية وأخلاقية حول إمكانية إعلان "مناطق محظورة" على القمر، خاصة في المناطق الغنية بالموارد مثل القطب الجنوبي .
مستقبل الاقتصاد القمري
لا يعكس الجدل الدائر في الكونجرس الأمريكي حول البرنامج الفضائي الصيني فقط مخاوف أمنية، بل أيضاً قلقاً من فقدان الولايات المتحدة لريادة الاقتصاد الفضائي الناشئ. مايك جولد، أحد مهندسي "اتفاقيات أرتيميس"، حذر بأنه "إذا سبقتنا الصين، سنشهد إعادة تشكيل القواعد بما يؤثر على اقتصادنا، وقدرتنا على الابتكار، وحتى أمننا القومي"
وتستثمر الصين بقوة في تقنيات التعدين الفضائي وتطوير أنظمة الدفع المتقدمة، كما أنها تطور قدراتها في مجال سياحة الفضاء عبر شركات مثل "سي إيه إس سبيس" التي تخطط لإطلاق رحلات سياحية بحلول عام 2028 .