أخبار عاجلة

داعش وليبيا.. إعادة إنتاج الفشل من سرت إلى المتوسط

داعش وليبيا.. إعادة إنتاج الفشل من سرت إلى المتوسط
داعش وليبيا.. إعادة إنتاج الفشل من سرت إلى المتوسط
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

صدرت صحيفة النبأ التابعة لتنظيم داعش في عددها ٥١٢ (الخميس ١١ سبتمبر ٢٠٢٥) بافتتاحية ركزت على الساحة الليبية، بوصفها "قلب أفريقيا وجنوب أوروبا" و"مفتاح الصحراء الأفريقية". هذه الافتتاحية ليست مجرد تحليل سياسي داخلي، بل تمثل امتدادًا لاستراتيجية التنظيم في توظيف ليبيا كمنصة جهادية ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية.

منذ ٢٠١٤ وحتى سقوط "ولاية طرابلس" في سرت عام ٢٠١٦، حاول داعش أن يجعل من ليبيا مركزًا بديلًا لـ"الخلافة" بعد تضييق الخناق عليه في العراق وسوريا. وعليه، فإن الخطاب الحالي يعكس محاولة لإعادة إحياء هذه السردية، واستدعاء الرمزية التاريخية والفقهية لتحفيز الأنصار.

لكن خلف هذه اللغة الدعائية تكمن رسائل مسكوت عنها. فالتركيز على ليبيا يعكس في جوهره أزمة التنظيم بعد تراجعه في ساحات أخرى، وحاجته الماسة إلى اختراع "قضية جديدة" تبقيه حاضرًا في الوعي الجهادي. كما أن الخطاب يتجاهل عمدًا واقع ليبيا المعقد: الانقسامات السياسية، الصراعات القبلية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية التي تهم المواطن الليبي أكثر من الشعارات الكبرى. بذلك، لا يعكس النص فقط رؤية دينية أو تاريخية، بل أيضًا محاولة لتعويض الفشل الميداني عبر الهيمنة الخطابية، وإعادة تقديم التنظيم كفاعل مركزي رغم تراجعه على الأرض.

 

التاريخ كأداة للتعبئة

يحرص خطاب داعش في افتتاحية النبأ على استدعاء التاريخ الإسلامي المبكر، ولا سيما فتوح عمرو بن العاص وعقبة بن نافع في شمال إفريقيا، ليضعها في خط موازٍ لتجربة مقاتليه في ليبيا. فالافتتاحية تقول بوضوح: "تحركت جيوش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص وعقبة بن نافع... وسار أجناد الدولة الإسلامية على درب أسلافهم...". هذا الربط المباشر بين الماضي البعيد والحاضر المعاصر ليس بريئًا، بل يهدف إلى تثبيت صورة التنظيم كامتداد طبيعي لسلسلة "الفتوحات الإسلامية" عبر القرون.

لكن هذا الربط يقوم على إسقاط تاريخي يختزل أكثر من أربعة عشر قرنًا من التغيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية في ثنائية بسيطة: "فتح أول" و"فتح داعشي". فالخطاب يتجاهل حقيقة أن الفتوحات الأولى ارتبطت ببناء دول مركزية وإقامة نظم سياسية، بينما تجربة داعش في ليبيا ارتبطت بالاقتتال الداخلي والفوضى وانهيار مؤسسات الدولة. هنا يتضح أن التاريخ لم يُستدعَ بهدف الوعي النقدي أو المقارنة العلمية، بل من أجل خلق وهم الاستمرارية الذي يضفي شرعية على مشروع التنظيم. إضافة إلى ذلك، فإن الخطاب يغفل اختلاف السياقات بشكل جذري. فالمجتمع الليبي في القرن السابع الميلادي لم يكن يشبه واقعه في القرن الحادي والعشرين: التركيبة القبلية، البنية الاقتصادية، العلاقات مع المحيط الإقليمي والدولي، كلها عناصر تجعل من الاستدعاء التاريخي عملية انتزاع قسري للنصوص والأحداث من سياقاتها الأصلية. ومع ذلك، يقدَّم هذا التاريخ وكأنه نسخة طبق الأصل يمكن إحياؤها وإعادة إنتاجها بمجرد رفع شعار "الجهاد".

الأخطر في هذا التوظيف هو أنه يحوّل التاريخ إلى أداة تعبئة نفسية بدل أن يكون مجالًا للتأمل والفهم. فحين يُقال للمقاتلين إنهم "يسيرون على خطى الفاتحين"، فإن ذلك يحمّلهم شعورًا بالقداسة والرسالية، ويعطيهم مبررًا لتجاوز الواقع والاندفاع نحو العنف باعتباره استمرارًا لمسيرة مقدسة. وهنا يظهر البعد الأيديولوجي الصرف: تحويل التاريخ من مجال للتعدد والتنوع إلى أداة دوجمائية تُستخدم لتبرير مشروع أحادي يقوم على الإقصاء والعنف.

ثنائية "الإسلام مقابل الصليبية"

تحاول افتتاحية النبأ أن ترسم المشهد الليبي في صورة مواجهة كبرى بين الإسلام من جهة، و"أوروبا الصليبية" من جهة أخرى. إذ ترد العبارة: "مدى خطورتها على أوروبا الصليبية" لتلخص النظرة التي يعتمدها التنظيم في تفسير موقع ليبيا ودورها. فالبلاد لا تُقدَّم كدولة ذات مشكلات داخلية معقدة، بل كجبهة متقدمة من جبهات "المعركة الكونية" بين الإيمان والكفر. بهذا الأسلوب، يذوب المشهد الليبي المحلي في خطاب عالمي يختزل كل التناقضات في ثنائية واحدة شديدة التبسيط.

إن هذا التصوير يعكس ما يمكن تسميته بـ "المخيال الجهادي الكوني"، حيث لا وجود إلا لمعسكرين متقابلين: "معسكر الإيمان" و"معسكر الكفر". وفي ظل هذه الثنائية الصارمة، يغيب أي اعتبار للتعدد الاجتماعي أو التنوع السياسي أو حتى للاختلافات داخل الحركات الإسلامية نفسها. فكل من يقف خارج التنظيم يُدرج آليًا في خانة "الكفر" أو "الردة"، الأمر الذي يتيح للتنظيم أن يبرر قتاله ضد أطراف شديدة التباين، من الحكومات المحلية إلى القوى الغربية.

لكن هذا التأطير الخطابي يغفل الواقع الليبي المليء بالتعقيدات. فليبيا بعد سقوط نظام القذافي لم تتحول إلى ساحة مواجهة حضارية، بل إلى فضاء مضطرب تتنازعه حكومتان متنافستان، وتسيطر عليه تشكيلات مسلحة ذات ولاءات قبلية وإقليمية متشابكة، فضلًا عن أزمة اقتصادية خانقة وانقسامات اجتماعية عميقة. كل هذه العوامل تغيب عمدًا عن خطاب داعش، لأنها لا تخدم صورة "المعركة الكونية" التي يريد التنظيم ترويجها لجذب المقاتلين والداعمين.

الأخطر أن هذه الثنائية ليست مجرد أداة تحليلية في النص، بل هي إستراتيجية للتعبئة والتحريض. فحين يُقال للمقاتلين إن معركتهم ليست ضد خصم سياسي محلي بل ضد "الصليبية العالمية"، فإن ذلك يمنحهم شعورًا بالمجد والبطولة، ويحوّل الحرب الأهلية إلى حرب مقدسة. بهذا الشكل، يتحول الصراع من نزاع سياسي يمكن التفاوض حوله إلى صدام صفري لا يقبل سوى الانتصار أو الفناء. وهنا تكمن قوة الخطاب الجهادي وضعفه في آن واحد: قوته في قدرته على التعبئة، وضعفه في عجزه عن استيعاب الواقع المعقد الذي يرفض الانصهار في ثنائيات تبسيطية.

صناعة العدو الداخلي

تعمل الافتتاحية على توسيع دائرة الأعداء بما يتجاوز "الآخر الصليبي"، لتشمل طيفًا واسعًا من الفاعلين الإسلاميين المحليين مثل الإخوان المسلمين والقاعدة والثوار. ففي النص، يُقدَّم هؤلاء بوصفهم شركاء في "التحالفات الإبليسية" التي تستهدف "المجاهدين"، وهو توصيف يُفرغ أي إمكانية للتعاون أو حتى الاختلاف المشروع داخل الساحة الإسلامية. بذلك، يصبح كل من لا يلتزم بخط داعش خيانةً صريحةً للعقيدة.

هذا النمط الخطابي يعكس عقلية الإقصاء المطلق التي تقوم على تجريد الخصوم من أي شرعية دينية أو سياسية. فحتى الجماعات ذات المرجعية الإسلامية، والتي تنادي هي الأخرى بتطبيق الشريعة أو مقاومة النفوذ الأجنبي، لا تُعامل كحلفاء أو شركاء محتملين، بل يُعاد تأطيرهم كخونة وعملاء في خدمة المشروع الغربي. وهنا تتضح محاولة داعش لاحتكار المجال الديني والسياسي على حد سواء.

كما يساهم هذا الخطاب في إعادة صياغة الصراع بطريقة تبسط الواقع الميداني المعقد. ففي ليبيا، تتشابك المصالح بين قوى قبلية، وحكومات متنافسة، وتنظيمات مسلحة ذات أجندات مختلفة. لكن النص الداعشي يتجاهل هذا التشابك ويعيد ترتيب الخريطة لتبدو كصراع ثنائي: "داعش" في مواجهة "تحالف صليبي-إخواني- قاعدي". وبذلك يُمحى الطابع المحلي للصراع لصالح سردية كونية تقوم على المؤامرة الكبرى ضد "المجاهدين".

أخيرًا، يمكن النظر إلى هذا الخطاب باعتباره أداة لتثبيت هوية الجماعة داخليًا. فبتصوير الخصوم الداخليين كأعداء لا يختلفون عن "الصليبيين"، يعزز داعش الانغلاق الأيديولوجي ويمنع أي تساؤلات من أتباعه حول إمكانية التعاون أو التعايش مع الآخرين. إنه خطاب يُعلي من فكرة "الطليعة المنعزلة" التي تقف وحدها في مواجهة العالم بأسره، ويستمد من هذه العزلة شرعية إضافية أمام أعضائه.

الدين كأداة تحريض

يُظهر النص كيف يوظّف خطاب داعش الآيات القرآنية بطريقة انتقائية تخدم أغراضه التعبوية. ففي الاستشهاد بالآية:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

يجري حصر معنى "ما يحييكم" في الجهاد القتالي والشهادة فقط. هذا التفسير يُسقط أي معانٍ أخرى للنص القرآني، ويحوّل الآية إلى صيحة تعبئة عسكرية تخاطب الغرائز القتالية بدلًا من العقول والقلوب.

إن هذا النوع من القراءة يعكس ما يمكن تسميته بـ "الاختزال النصي"، حيث تُنتزع الآيات من سياقاتها القرآنية والموضوعية الأوسع. فالآية في الأصل تتحدث عن الاستجابة لله ورسوله بما يبعث الحياة في الإنسان والمجتمع، سواء عبر الإيمان، أو العبادة، أو العدالة، أو الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي. لكن حين تُقرأ في خطاب داعش، تُختزل الحياة كلها في صورة الموت "شهيدًا" على جبهات القتال.

بهذا التوظيف، يتحول القرآن من كتاب هداية شامل إلى مستودع لشعارات انتقائية تُستخدم لإشعال الحماسة القتالية. ويترافق ذلك مع تغييب مقاصد الشريعة الكبرى التي تتمحور حول حفظ النفس والعقل والمجتمع. وبذلك يفرغ النص القرآني من طابعه الجامع ويُعاد إنتاجه كأداة تحريض عسكري بحت.

أخيرًا، يمكن القول إن هذه القراءة لا تكتفي بتشويه معنى الآية، بل تعيد صياغة الدين نفسه كأيديولوجيا صدامية. فهي تزرع في وعي المتلقين أن الاستجابة الحقيقية لله ولرسوله تعني حمل السلاح والقتال، وتُقصي أي مسارات أخرى للتدين من عبادة أو علم أو إصلاح. بهذا المعنى، يغدو الدين وقودًا للصراع بدلًا من أن يكون إطارًا للسلام والارتقاء الإنساني.

لغة الاستثارة والتحريض

تتسم افتتاحية الخطاب بكثافة الأفعال الحركية التي تُوظَّف بعناية لإثارة المتلقي، مثل: "نستنهض عزائمهم، نستثير طاقاتهم، نشحذ هممهم...". هذه الأفعال لا تُقدَّم في سياق توصيف موضوعي أو تحليل عقلاني، بل تأتي كأوامر متكررة ترسم صورة الانطلاق والاندفاع المستمر. إنها لغة تعبئة مباشرة تسعى إلى تحريك العواطف قبل العقول، وإلى دفع القارئ نحو موقف عملي فوري بدلًا من التأمل أو النقاش. هذا الأسلوب الخطابي يضع المتلقي في حالة من الضغط النفسي، إذ يُغلف النص بمشاعر التحدي والاستنهاض، مما يخلق إحساسًا ضمنيًا بالذنب أو التقصير إذا لم يستجب المخاطَب. فبدلًا من أن يكون القارئ مراقبًا أو محللًا، يجد نفسه مدمجًا في النص كطرف معني وملزَم بالفعل. إنه خطاب لا يسمح بالحياد، بل يفرض على المتلقي أن يختار بين "المشاركة" أو "الخيانة".

ومن خلال هذه اللغة، يتحول النص من مادة سياسية أو فكرية إلى أداة للتحريض المباشر. فالمفردات المختارة تُعيد تشكيل الواقع على نحو يجعل "الجهاد" الخيار الوحيد المقبول، وتُقصي أي بدائل أخرى للحراك الاجتماعي أو السياسي. بهذا، يُفرَغ النقاش من إمكانات التنوع والاختلاف، ويُختصر في مسار واحد لا رجعة عنه.

أخيرًا، تكشف هذه اللغة عن البعد النفسي العميق للخطاب الجهادي: فهو لا يكتفي بطرح أفكار أو سرد أحداث، بل يسعى إلى إعادة تشكيل الحالة الشعورية للمتلقي. عبر الإثارة المتكررة للمشاعر، يصنع النص فضاءً وجدانيًا ضاغطًا يدمج الفرد في مشروع جماعي قوامه الحماسة والانفعال، لا العقلانية أو النقد. وبذلك يتحقق أحد أخطر أهداف الدعاية: تحويل النص من "خبر" أو "تحليل" إلى "نداء قتال".

ليبيا كمنصة دولية

يُبرِز النص الدور الليبي بوصفه يتجاوز حدود الداخل، حيث تُصوَّر الساحة الليبية كمنصة جهادية ذات بعد دولي. فالإشارة إلى "استغلال الساحة الليبية المتاخمة لأوروبا الجنوبية في تهديد المصالح الصليبية" لا تعكس مجرد قراءة جغرافية، بل تؤسس لرؤية استراتيجية ترى في ليبيا نقطة انطلاق عابرة للحدود. بهذا المعنى، لا يُقدَّم المشروع الداعشي في ليبيا كقضية محلية مرتبطة بأزماتها الداخلية، وإنما كجزء من خطة أوسع تستهدف العمق الأوروبي.

إن هذا الاستدعاء يفتح المجال أمام ربط ليبيا بملف "الهجرة الجهادية" عبر البحر المتوسط. فخطاب داعش يُضفي على الجغرافيا معنى دعائيًا: الموقع القريب من السواحل الأوروبية يُصوَّر كجسر محتمل نحو "أرض الصراع الكبرى"، مما يحوّل البحر المتوسط إلى مسرح رمزي لعبور المجاهدين. هذا التصوير يُغذي المخيال الجهادي الذي طالما استحضر صورة "العبور" نحو قلب الغرب.

كما يحمل هذا الطرح وظيفة دعائية واضحة موجهة إلى الأنصار المقيمين في أوروبا. فحين يُقدَّم البديل الليبي بوصفه أقرب وأسهل من الشام أو العراق، فإنه يُعاد ترتيب أولويات الانضمام إلى التنظيم. فبدلًا من رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر نحو المشرق، يُعرض على المتعاطفين خيار جغرافي جديد، أقل تكلفة وأكثر ارتباطًا بمحيطهم الأوروبي المباشر. وبذلك يتحول الخطاب إلى دعوة ضمنية للانتقال السريع والانخراط العملي.وأخيرًا، يمكن القول إن تصوير ليبيا كمنصة دولية يخدم هدفين في آن واحد: عسكري يتمثل في التهديد المحتمل لأوروبا من خاصرتها الجنوبية، ودعائي يتمثل في جذب عناصر جديدة عبر تسويق ليبيا كبوابة بديلة للمشروع الجهادي العالمي. وبهذا يجمع النص بين الرؤية الاستراتيجية والخطاب التحريضي، ليُعيد إنتاج ليبيا ليس فقط كساحة نزاع داخلي، بل كحلقة في مشروع صدام عالمي.

السياق الليبي والإقليمي

أولًا، لا يمكن فهم الخطاب الداعشي حول ليبيا بمعزل عن واقعها الداخلي. فالبلاد تعيش -منذ سنوات- حالة انقسام سياسي مزمن بين سلطتين متنافستين في الشرق والغرب، مع وجود حكومات موازية ومؤسسات متنازعة على الشرعية. هذا الانقسام ترك فراغًا واسعًا في السلطة، وأتاح للجماعات المسلحة بمختلف ولاءاتها أن تفرض حضورها على الأرض، وهو ما يجعل أي خطاب جهادي يجد أرضية خصبة للتمدد بين التناقضات القائمة.

ثانيًا، تشكّل الحدود الليبية الرخوة مع ست دول أفريقية عاملًا إضافيًا يُسهِّل حركة الجماعات الجهادية. هذه الجغرافيا المفتوحة جعلت ليبيا نقطة وصل لطرق تهريب السلاح والمقاتلين والبشر عبر الصحراء الكبرى. ومن منظور داعش، لا تُعد هذه الثغرات مجرد تحدٍّ أمني للدول المجاورة، بل فرصة استراتيجية لاستثمارها في تدفق الموارد البشرية والمالية لتعزيز نشاطه.

ثالثًا، يتصل هذا التوجه بالسياق الأوسع لانحسار داعش في معاقله التقليدية في الشام والعراق. فبعد أن فقد السيطرة على مساحات واسعة هناك، أصبح التنظيم في حاجة ماسّة لإيجاد بدائل استراتيجية تحافظ على حضوره كفاعل عابر للحدود. أفريقيا، وبالأخص ليبيا والساحل ونيجيريا، تمثل الخيار البديل الذي يسمح بإعادة بناء قواعد جديدة للجهاد العالمي، بعيدًا عن الضغط العسكري المكثف الذي واجهه في المشرق.

رابعًا، من هنا يمكن النظر إلى افتتاحية صحيفة النبأ ليس فقط بوصفها نصًا دعائيًا يهدف إلى رفع المعنويات، بل كمرآة لحاجة التنظيم إلى سردية جديدة تُعيد له الزخم المفقود. فهي محاولة لإعادة صياغة المشهد الليبي ليظهر كـ"جبهة بديلة" تعوض خسائر الشام والعراق، وتمنح الأنصار سببًا جديدًا للالتحاق بالمشروع. وبذلك يصبح الخطاب أداة مزدوجة: دعائية للتحريض، واستراتيجية لتأطير مرحلة انتقالية في مسيرة التنظيم.

نقد الخطاب

أولًا، يتسم الخطاب الداعشي بانتقائية واضحة في توظيفه للتاريخ والدين. فهو لا يستحضر التجارب الإسلامية الكبرى إلا من زاوية "الفتح والجهاد"، متجاهلًا الأبعاد الحضارية والسياسية والاقتصادية التي شكّلت جزءًا أساسيًا من تلك المراحل. النصوص الدينية بدورها تُختزل في تأويلات محدودة تحصر معانيها في القتال، في حين أن السياق القرآني والنبوي أوسع بكثير. هذه الانتقائية ليست عفوية، بل مقصودة بهدف صناعة شرعية موجهة تبرر مشروع التنظيم.

ثانيًا، يتبنى الخطاب عقلية إقصائية تُقصي الجميع تقريبًا من دائرة "الإسلام الحق". فالغرب يوصف بـ"الصليبية"، والحكومات المحلية بالطاغوت، وحتى الجماعات الإسلامية الأخرى مثل الإخوان والقاعدة تُتهم بالردة والخيانة. بهذه الطريقة، لا يترك داعش أي مساحة للتعدد أو الاختلاف، بل يحتكر وحده سلطة الحديث باسم الدين. هذا الإقصاء يعكس أزمة عميقة في تصور التنظيم للإسلام ذاته، إذ يُختزل في جماعة واحدة تُصادر حق الآخرين في الانتماء.

ثالثًا، يقدّم الخطاب الصراع في صورة تصعيدية صفرية لا تحتمل أي حلول وسط أو تسويات سياسية. فالعالم في نظره مقسوم بحدة بين "معسكر الإيمان" و"معسكر الكفر"، ومن ثم تصبح كل مبادرة للحوار أو التسوية خيانة، وكل مساحة للتعايش تنازلًا عن الدين. هذه الرؤية تُغذي العنف المستمر وتمنع أي أفق لحلول سلمية، لأنها تُعيد إنتاج الصراع كحالة أبدية لا نهاية لها.

رابعًا، لا يمكن إغفال الطابع الدعائي لهذا الخطاب، خصوصًا بعد تراجع داعش عسكريًا في الشام والعراق. فالتنظيم يعوّض خسائره الميدانية بمحاولة الهيمنة على السردية والخطاب، ليُظهر نفسه كفاعل حي رغم الهزيمة. من هنا تأتي أهمية لغة التحريض والاستثارة، واستدعاء المخيال التاريخي والديني، إذ يشكّل ذلك وسيلة لتعويض الغياب العسكري عبر حضور رمزي يظل قادرًا على التأثير في المتعاطفين والأنصار.

خاتمة

أولًا، تكشف افتتاحية النبأ عن المكانة المحورية التي يمنحها تنظيم داعش للساحة الليبية في مشروعه الدعائي. فليبيا لا تُقدَّم فقط كساحة نزاع محلية، بل تُرسم بوصفها عقدة جغرافية تربط بين أفريقيا وأوروبا، وبوابة يمكن من خلالها النفاذ إلى "قلب الصراع الكوني" مع الغرب. هذه الصورة المبالغ فيها تُظهر أن التنظيم ينظر إلى ليبيا باعتبارها أكثر من دولة مضطربة، بل "جائزة استراتيجية" تحمل رمزية عابرة للحدود.

ثانيًا، رغم الزخم الديني والتاريخي الذي يوظفه الخطاب، إلا أن هذا الاستدعاء يعكس أزمة عميقة يعيشها التنظيم. فبعد خسارته لجزء كبير من حضوره في الشام والعراق، لم يعد أمامه سوى محاولة إعادة إنتاج نفسه عبر النصوص والدعاية. بعبارة أخرى، يتحول الخطاب إلى بديل عن الواقع، يحاول أن يغطي على التراجع الميداني بلغة مليئة بالتحريض والشحن العاطفي. هذه المفارقة تكشف عن الفجوة بين الخطاب والواقع.

ثالثًا، في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال أن التنظيم يصرّ على تقديم ليبيا كـ"ساحة جهاد" مفتوحة، متجاهلًا عمق الأزمة الليبية نفسها. فالخطاب يتعمد تهميش الصراعات السياسية الداخلية، والانقسامات القبلية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الليبيون يوميًا. بهذه الاستراتيجية، يُعاد رسم الواقع الليبي بما يخدم فقط رواية التنظيم، بحيث تختفي المعاناة الحقيقية للناس خلف شعارات "الفتح" و"الجهاد".

رابعًا، ثمة رسائل مسكوت عنها في النص تكشف عن أهداف غير معلنة. فالحديث عن "استغلال الحدود الرخوة" و"تهديد أوروبا" لا يعني فقط مشروعًا جهاديًا عسكريًا، بل أيضًا ورقة ضغط سياسية تُستخدم لتخويف الخصوم وكسب اهتمام الأنصار في الخارج. كما أن تصوير الإسلاميين الآخرين كـ"مرتدين" يخدم هدفًا داخليًا يتمثل في احتكار الشرعية الدينية، وإقصاء أي منافس محتمل قد يشارك التنظيم جمهوره أو ساحته.

خامسًا، في النهاية ما يروج له التنظيم من عنف لا يؤدي إلا إلى مضاعفة معاناة الليبيين، ويجعل بلادهم رهينة لمشاريع خارجية تتغذى على الفوضى. فبينما يسعى داعش لإقناع أنصاره بأن ليبيا بوابة إلى "المجد الإسلامي"، تكشف الوقائع أن البلاد تُستنزف في صراعات لا تنتهي، تُستخدم فيها شعارات الدين لتبرير مشاريع سياسية وعسكرية لا علاقة لها بمصالح الليبيين. وهنا يبرز التناقض الأبرز: خطاب يعد بالتحرير والنهضة، لكنه في الواقع لا يجلب سوى مزيد من الدماء والانقسام والتبعية.

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق 7 جامعات جديدة..مجلس الوزراء يصدر عدة قرارات هامة تخص قطاع التعليم الجامعي
التالى "إي تاكس" تحتفي بنجاح وزارة المالية في "التسهيلات الضريبية"