أخبار عاجلة
موعد عودة أشرف داري لتدريبات النادي الأهلي -

بين تلبانة وبرلين… حين يخسف القمر وتضيء الذاكرة

بين تلبانة وبرلين… حين يخسف القمر وتضيء الذاكرة
بين تلبانة وبرلين… حين يخسف القمر وتضيء الذاكرة

في ليلةٍ مثل هذه، حيث يختفي القمر خلف ظل الأرض، يعود بي الحنين إلى قريتي تلبانة. يخفت نور السماء، لكن ذاكرتي تضيء ببصيص من الطفولة، كأنها تنسج خيطًا من ذهب بين الماضي والحاضر.

أتذكر كيف كانت القرية كلها، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، تخرج بعد صلاة المغرب في مواكب عفوية تقودها رايات الطرق الصوفية. لم يكن أحد يسأل عن الأسباب العلمية للخسوف، بل كانت الأرواح تنشغل بالدعاء والهتاف:

"يا سيدنا يا عمر… فك الكرب عن القمر."

كان صوت الطرق على الأواني النحاسية والألومنيوم يعلو في الأزقة، يختلط بصوت الأطفال وضحكاتهم، وكأن القرية كلها تتحول إلى كرنفال شعبي. ما زلت أرى ذلك المشهد ماثلًا: رجال يحملون عمي عبد الله عمر - الرجل الطيب الفطري الذي رحل إلى رحمة الله - على الأكتاف، نهتف باسمه ونتجه نحو مقام سيدي الأزمازي أمام مقابر القرية. هناك نقرأ الفاتحة، ونعود لنعيش ليلة أشبه بزفة المولد، حيث يمتزج الخوف بالرجاء، والعلم الشعبي بالإيمان البسيط.

كانت تلك الليالي تمنح القرية روحًا، وتمنح الطفولة معنى آخر للانتماء والدهشة. لم يكن أحد ينشغل آنذاك بمصطلحات مثل "الظل" و"المدار" و"الاصطفاف الكوني"، بل كان كل شيء ملبَّسًا بروحانية وسذاجة جميلة. كبرنا، وكبرت معنا المعرفة، لكنها جردت الطقوس من براءتها، فلم يعد أحد يطرق الأواني، ولم يعد أحد يخرج في مواكب القرية، تغيّرت الملامح والوجوه، واختفى الفرح البسيط.

أتذكر أنني في عام 1999، وأنا في برلين، شهدت كسوفًا للشمس. كانت التجربة مختلفة تمامًا. هناك، لم يحمل أحد الرايات، ولم تُسمع أصوات الأواني، بل خيّم الرعب على المدينة. الناس تهافتوا على المحال التجارية يخزنون الطعام، وآخرون احتموا في بيوتهم خلف ستائر سميكة. كثيرون ارتدوا نظارات سوداء ليحموا عيونهم من الأشعة، والمدينة العصرية التي تتباهى بالعلم والتكنولوجيا بدت كطفل خائف من ظلام مفاجئ.

بين تلبانة وبرلين، بين الطفولة والعلم، بين بساطة القرية وحداثة المدينة، أدركت أن الخسوف ليس مجرد ظاهرة فلكية، إنه مرآة تعكس طبيعة الإنسان أمام المجهول. ففي القرية كان المجهول فرصة للابتهال والفرح الجماعي، وفي المدينة صار المجهول سببًا للقلق الفردي والخوف المحسوب.

العلم يفسر لنا الظواهر، لكنه لا يمنحنا دائمًا الطمأنينة. أما الذاكرة، فهي الوحيدة التي تصالح بين الرهبة والمعنى. واليوم، وأنا أرقب خسوف القمر من بعيد، أجدني أشتاق إلى تلك الليالي في تلبانة، حين كان القمر يغيب قليلًا لنغني له كثيرًا، وحين كان الخوف يتحول إلى مهرجان حب يجمع القرية كلها.

--بين الخرافة والعلم: أيهما يملك الطمأنينة؟

الإنسان، منذ أقدم العصور، لم يتوقف عن النظر إلى السماء. كل خسوف أو كسوف كان يُقرأ بوصفه علامة سماوية، إما غضبًا من الآلهة، أو بشارة بحدث جلل، أو دعوة للتوبة. في الشرق كما في الغرب، في القرى كما في المدن، تتشابه الاستجابات وإن اختلفت الأسماء.

في تلبانة، كان الخسوف مناسبة للابتهال الشعبي، وفي برلين كان مناسبة للقلق العلمي. المفارقة أن العلم، الذي كشف لنا دقائق الاصطفاف الكوني وكيف يحجب ظل الأرض ضوء الشمس عن القمر، لم ينجح في نزع الخوف من النفوس، بل زادها رهبة أحيانًا، إذ صار الإنسان يعرف حجم القوى الكونية أمامه، ويشعر بصغره أكثر.

الخرافة تمنح الطمأنينة لأنها تفسر المجهول بلغتنا البسيطة، فيما يمنحنا العلم الحقيقة المجردة التي تتركنا عُزَّل أمام عظمة الكون.

--القمر… مرآة الروح الإنسانية--

القمر لم يكن يومًا جرمًا سماويًا فحسب. هو رمز للشعراء والعشاق، ورفيق للأنبياء والفلاسفة. حين يخسف، كأن الإنسان يخسف معه، فيرى ذاته في عتمة السماء. ربما لهذا السبب كانت الطقوس الشعبية أكثر صدقًا: الناس لم يكونوا يتحدثون عن القمر بصفته جرمًا بعيدًا، بل كأنه فرد من العائلة، أصابه كرب، ويجب أن نغيثه بالدعاء والضجيج.

في طفولتي، كنت أصدق أن صوت الأواني هو الذي يحرر القمر من الظلام. واليوم، وأنا أعرف قوانين الفيزياء والفلك، أحن إلى تلك البراءة. أليس العلم نفسه في جوهره محاولة لفهم الطفولة الأولى للكون؟

--من تلبانة إلى برلين… رحلات الذاكرة والوعي --

تجربتا الخسوف في حياتي - واحدة في قريتي البسيطة، وأخرى في قلب أوروبا الحديثة - كشفتا لي أن الإنسان واحد في خوفه ورجائه، وإن اختلفت وسائله. في القرية، الخوف يُكسر بالاحتفال، وفي المدينة يُكسر بالاحتياط. الأول يفتح الأبواب للجيران، والثاني يغلقها بالمفاتيح.

ولعل هذا الفارق يعكس التحول الأوسع في مسار الحضارة: من الجماعة إلى الفرد، من الأسطورة إلى المعادلة، من الطقس الجماعي إلى التجربة الشخصية. لكن مهما تغيّرت الأدوات، يبقى جوهر الظاهرة واحدًا: القمر يختفي قليلًا، ليعلّمنا درسًا أبديًا في الفناء والتجدد.

--الفلسفة والكون: ماذا نتعلم من الخسوف؟

الخسوف يذكرنا أن الكون قائم على نظام دقيق، حيث تصطف الأجرام وفق مسارات محسوبة لا تحيد.لكنه في الوقت نفسه يذكرنا بهشاشتنا. نحن على كوكب صغير، تابع لنجم متوسط، في مجرة من بين مليارات المجرات.

ومع ذلك، حين ننظر إلى القمر، نشعر أننا نحن مركز العالم. هذا التناقض بين صغرنا أمام الكون وكِبَر أثرنا في معناه هو ما يصنع الفلسفة: نحن كائنات تبحث عن المعنى في كل ظاهرة، حتى لو كانت مجرد لعبة فيزيائية بين الأرض والقمر والشمس.

--: الحنين نور آخر---

اليوم، وأنا أتابع أخبار خسوف القمر في مصر، أجدني لا أنظر إلى السماء وحدها، بل إلى قلبي أيضًا. العلم يفسر، والفلسفة تؤول، لكن الحنين وحده يمنحنا الدفء.

في تلبانة، كان الخسوف ليلة عرس للروح. في برلين، كان يوم خوف من الغد.وبينهما، ظل القمر هو القمر: جرم يدور في مداره، لكنه في عيوننا يتحول إلى قصيدة، أو إلى نذير، أو إلى حكاية طفولة لا تموت.

وهكذا، حين يخفت نور القمر، لا يخفت معه نور الذكرى. بل يضيء فينا ما ظنناه انطفأ، ويعيدنا إلى جذورنا، إلى قريتنا الصغيرة، حيث كان كل شيء أبسط… وأجمل.. .!!

محمد سعد عبد اللطيف -

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية،

إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أسعار اللحوم الحمراء اليوم الإثنين
التالى ترامب: سيصدر قرارا بشأن تحرك اتحادي محتمل في شيكاغو "خلال الأيام المقبلة"