يُعد كتاب "المدائح النبوية في الأدب العربي" للدكتور زكي مبارك من أبرز الدراسات الأدبية التي تناولت فن المديح النبوي من منظور تحليلي تاريخي وثقافي، حيث استعرض تطور هذا الفن عبر مراحل متعددة من الشعر العربي، مركزًا على مجموعة من الشعراء المحوريين الذين أسهموا في تشكيل معالمه.
سلّط مبارك الضوء على قصائد حسان بن ثابت، شاعر الرسول، الذي يُعد الرائد الأول في مديح النبي محمد ﷺ، ثم تناول إسهامات الشريف الرضي التي مثلت نقلة نوعية من حيث الأسلوب والصياغة الشعورية، وصولًا إلى أعمال البوصيري في قصيدته الشهيرة "البُردة"، وما أحدثته من تأثير بالغ في الوجدان الديني، والحَموي في "البديعيات" التي تُعد من أرقى النماذج البلاغية في المديح النبوي.
نشأة المولد النبوي بين الفرس والعرب
يورد زكي مبارك في كتابه أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لم ينشأ في البيئة العربية، بل كانت بلاد فارس هي أول من احتفى بهذه المناسبة على نطاق رسمي ومنظّم. ويذكر أن أقدم توثيق وصل إليه يعود إلى عام 604 هـ حين زار العالم ابن دحية مدينة أربل ورأى مظفر الدين كوكبري، والي أربل، يُنظّم احتفالًا فخمًا بذكرى المولد النبوي، فألف له كتابًا بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" وختمه بقصيدة طويلة، كافأه عليها كوكبري بألف دينار، في تأكيد على مدى الاهتمام الرسمي والرمزي بالمناسبة.
أصل التسمية وتاريخ تأليف الموالد
يشير زكي مبارك إلى أن تأليف الموالد يعود إلى زمن بعيد، وأن استخدام كلمة "مولد" كان يُستعمل بمعنى "تاريخ أو سيرة"، واستشهد على ذلك بكتاب "مولد الحسن والحسين" للواقدي، الذي يُعد من أقدم النماذج لهذا النوع من التأليف.
ويؤكد مبارك أنه من المؤكد أن تأليف الموالد أقدم بكثير من احتفالات أربل، لكن لا توجد دلائل واضحة على أول من كتب في هذا المجال. ويُكتفى حاليًا بذكر بعض النماذج المبكرة، مثل:
كتاب "العروس"، وهو مولد ألّفه ابن الجوزي
رسالة ابن جابر
رسالة الرعيني الغرناطي
الصوفية ودورهم في ترسيخ تقاليد المولد النبوي
يرى زكي مبارك أن الصوفية كان لهم الدور الأبرز في ترسيخ تقاليد الاحتفال بالمولد، إذ حوّلوا قصة المولد إلى عنصر أساسي في الحياة الدينية والاجتماعية. ويقول إنهم أدخلوا المولد إلى الحفلات الشعبية والدينية، وأصبح يُقرأ رسميًا في شهر ربيع الأول، إلى جانب قراءته في مناسبات أخرى مثل الأعراس والتهاني.
ويذهب مبارك إلى أن الصوفية لم يكتفوا بسرد الوقائع، بل أضافوا طابعًا قصصيًا وخياليًا إلى الموالد، لجذب العامة واستمالة وجدانهم، مما أسهم في شيوع هذا النمط من الأدب الديني بشكل واسع.
انتشار واسع للموالد
من المثير في طرح زكي مبارك أنه يذكر وجود أكثر من أربعين مولدًا محفوظًا في دار الكتب المصرية، تم تأليفها على مدى قرون، وهو ما يدل على شعبية هذا النوع الأدبي، وتحوله من عمل خاص إلى ممارسة ثقافية وجماعية.
ويضيف أن لكل طريقة صوفية مولدًا خاصًا بها، بل في كثير من الحالات، يكون لكل شيخ صوفي مولده الخاص، مشيرًا إلى أن معظم هذه النصوص تتشابه في الأغراض والأسلوب، وتهدف جميعها إلى تمجيد النبي ﷺ وإحياء ذكراه في نفوس الناس.
علاقة المدائح النبوية بالوجدان الشعبي والديني
يكشف تحليل زكي مبارك عن أن المدائح النبوية لم تكن مجرد قصائد شعرية تُقال في مدح النبي، بل تحوّلت إلى ممارسات دينية وثقافية ترتبط بالوجدان الجمعي، فتجاوزت حدود الشعر لتصبح جزءًا من الطقوس الاجتماعية والدينية التي تعكس تعلق الناس بسيرة النبي ﷺ، ومحوريتها في الثقافة الإسلامية.