في صباح اليوم ، تحولت ساحة تيانانمن في العاصمة الصينية بكين إلى مسرح عالمي في ذكرى مرور ثمانين عاماً على هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، حيث أقامت الصين عرضاً عسكرياً غير مسبوق جذب أنظار العالم، ليس فقط لضخامته أو تنوع الأسلحة التي ظهرت فيه، بل لأن مشهد الزعماء الثلاثة، شي جين بينج وفلاديمير بوتين وكيم جونج أون، وهم يسيرون جنباً إلى جنب، رسم صورة رمزية لتحالف جديد يعيد تشكيل النظام الدولي على مرأى الجميع.
عرض القوة الصينية
الاستعراض العسكري جاء بمثابة إعلان واضح عن مكانة الصين العسكرية المتصاعدة. فقد ظهرت فيه صواريخ باليستية نووية بعيدة المدى قادرة على حمل عدة رؤوس نووية، إلى جانب صواريخ فرط صوتية تفوق سرعتها خمسة أمثال سرعة الصوت، وهو تطور يثير قلق المؤسسات العسكرية الغربية التي تعتبر هذه التكنولوجيا تحدياً مباشراً لأنظمة الدفاع الصاروخي التقليدية.
كما عرضت الصين طائرات مسيرة عملاقة قادرة على الغوص تحت سطح البحر لمهام استطلاعية وهجومية، وروبوتات قتالية رباعية الأرجل يمكنها حمل الذخائر وتقديم الإمدادات والاقتحام في خطوط العدو الأمامية، بينما ظهور هذه الروبوتات للمرة الأولى على الملأ منح العرض طابعاً مستقبلياً يوحي بأن بكين تضع نفسها في طليعة سباق التسليح العالمي.
رسائل شي جين بينج
في كلمته أمام الضيوف الدوليين، شدد الرئيس الصيني شي جين بينج على أن العالم لا يجب أن يعود إلى "شريعة الغاب" حيث يهيمن القوي على الضعيف. كان حديثه موجهاً بشكل غير مباشر إلى الولايات المتحدة، التي تصفها بكين في مناسبات عدة بأنها قوة تمارس "التنمر" الاقتصادي والسياسي، حيث دعا شي إلى تقدير السلام واستخلاص العبر من التاريخ، لكنه في الوقت ذاته قدّم عرضاً للقوة العسكرية يبرهن أن بلاده باتت تمتلك أوراق ردع لا تقل وزناً عن خطابها السياسي.
تحالفات متشابكة
إلى جانب الصين، كان الحضور الروسي والكوري الشمالي لافتاً. بوتين، الذي يخوض حرباً ممتدة في أوكرانيا، وجد في المناسبة فرصة لإظهار الدعم السياسي من حليفين استراتيجيين، أما كيم جونج أون، فكان حضوره تجسيداً لتقارب متنام مع موسكو، إذ سبق لبلاده أن أرسلت ذخائر وقوات لدعم روسيا في صراعها مع الغرب، بينما اللقاء الثنائي بين بوتين وكيم على هامش العرض أكد هذا المسار، إذ تحدث كيم عن "واجب أخوي" لمساندة روسيا، فيما وجه بوتين له دعوة رسمية لزيارة موسكو.
الغياب الأمريكي والرسائل الخفية
أكثر ما أثار الانتباه هو غياب أي تمثيل أمريكي أو أوروبي بارز عن الاحتفالات، باستثناء حضور محدود لرئيسي سلوفاكيا وصربيا. هذا الغياب أعطى مشهداً أكثر وضوحاً.
الصين أرادت أن تُظهر نفسها كقطب جامع لقوى تعارض النظام الدولي الذي تقوده واشنطن، وظهر تعليق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصته الرقمية، حين قال إن بوتين وكيم يتآمران مع شي ضد الولايات المتحدة، ما عكس حجم القلق في الأوساط الأمريكية. ورغم نفي الكرملين القاطع لوجود أي مؤامرة، فإن الصورة وحدها كانت كافية لتوجيه رسالة سياسية مدوية إلى الغرب.
الرؤية الروسية والصينية
في موسكو، اعتُبر العرض فرصة لتقوية جبهة المواجهة مع الغرب. المتحدث باسم الكرملين وصف اتهامات ترامب بأنها مثيرة للسخرية، مؤكداً أن القادة الثلاثة لا يسعون إلى مؤامرة بل إلى تعزيز مواقعهم في النظام الدولي الراهن.
أما في بكين، فقد كان التركيز على أن العرض يهدف إلى إبراز الصين كقوة مسؤولة، قادرة على حماية أمنها القومي وفي الوقت ذاته الدعوة إلى السلام العالمي. وسائل الإعلام الصينية شددت على أن استعراض الأسلحة لا يعني التهديد، وإنما يعكس قوة الردع الضرورية للحفاظ على التوازن.
تحليلات دولية
في الصحف الأمريكية، وُصف الحدث بأنه "إشارة مقلقة" على تحالف ثلاثي قد يشكل محوراً بديلاً عن الغرب، بينما رأت صحف بريطانية أن الصين أرادت عبر هذا الاستعراض أن تبرهن على اكتمال عناصر "المثلث النووي" لديها بقدرتها على الضرب من البر والبحر والجو.
أما الصحافة الروسية فاعتبرت أن العرض دليل على أن بكين لم تعد تخشى مواجهة علنية مع الولايات المتحدة، في حين أبرزت وسائل الإعلام الصينية أن هذا اليوم يكتب بداية "عصر عالمي جديد" يقوم على التعددية القطبية ورفض الأحادية الأمريكية.
ملامح مرحلة جديدة
غادر القادة الثلاثة ساحة تيانانمن بعد انتهاء العرض، وبقيت رسائلهم، الصين أرادت أن تقول إنها لم تعد قوة اقتصادية صاعدة فحسب، بل قوة عسكرية متكاملة الأركانن، وأكدت روسيا أنها ليست معزولة رغم العقوبات الغربية، فيما أظهرت كوريا الشمالية أنها طرف فاعل في التحالفات الآسيوية الجديدة. وبينما يرى البعض في هذا المشهد تهديداً مباشراً للغرب، يراه آخرون بداية واقع جديد تتوزع فيه موازين القوة بعيداً عن التفرد الأمريكي.