أخبار عاجلة
استقالة محافظ البنك المركزي الإثيوبي -
قائمة ريال مدريد لـ دوري أبطال أوروبا 20252026 -

صناعة الطاغوت وتغذية الإرهاب.. قراءة في خطاب داعش ما بعد الهزيمة

صناعة الطاغوت وتغذية الإرهاب.. قراءة في خطاب داعش ما بعد الهزيمة
صناعة الطاغوت وتغذية الإرهاب.. قراءة في خطاب داعش ما بعد الهزيمة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تُعد افتتاحية العدد 510 من صحيفة النبأ «28 أغسطس 2025» وثيقة مهمة لفهم آليات الخطاب الداعشى فى مرحلته الراهنة، حيث يحاول التنظيم، بعد سنوات من التراجع الميداني، إعادة بناء سرديته من خلال ثنائية مركزية: «الطاغوت» فى مواجهة ما يسميه «الإرهاب العادل». هذا الخطاب لا يقتصر على التحريض، بل يعمل على إنتاج إطار رمزى جديد يمكّن الأتباع من تفسير الواقع بطريقة أحادية مغلقة، تعزلهم عن أى قراءة بديلة أو تفسير سياسى واجتماعى معقد.

وسوف نتوقف فى هذه القراءة النقدية عند أربعة محاور أساسية: أولًا، البنية الخطابية التى تكشف أدوات التنظيم فى صناعة سرديته «التأصيل الديني، ثنائية الخير والشر، اللغة القطعية، المقارنات المضللة». ثانيًا، الرسائل المسكوت عنها التى تُظهر أزمات داعش الداخلية رغم إنكارها فى الخطاب المعلن «الهزيمة الميدانية، انحسار الحاضنة الشعبية، إعادة تدوير خطاب المؤامرة». ثالثًا، الدلالات والسياقات محليًا وإقليميًا ودوليًا، والتى توضّح كيف يسعى التنظيم لإعادة تقديم نفسه كفاعل مركزى فى المشهد الجهادي. وأخيرًا، الأثر على تنامى الإرهاب عبر شرعنة العنف مجددًا، وتغذية الصراعات الداخلية، وتدويل التهديد.

البنية الخطابية

يظهر خطاب افتتاحية النبأ فى هذا العدد محمّلًا بالأدوات البلاغية والأساليب الدعائية التى اعتاد تنظيم داعش توظيفها لتثبيت رؤيته الأحادية للعالم. ومن خلال قراءة دقيقة للبنية الخطابية، يمكن ملاحظة أن النص لا يقدّم مجرد تعليق على المشهد السوري، بل يسعى لإعادة صياغته ضمن إطار عقدى صارم، يُقصى أى تفسيرات بديلة، ويُلزم المتلقى برؤية واحدة مغلقة.

ولكى نفهم عمق هذا الخطاب، لا بد من التوقف عند أبرز عناصره المكوِّنة، والتى تتمثل في: التأصيل الديني، ثنائية الخير والشر، اللغة القطعية، والمقارنة المضللة. هذه العناصر ليست مجرد أدوات لغوية، بل هى مفاتيح لفهم كيفية بناء التنظيم لسرديته واستقطاب جمهوره، والتأثير على وعى المتلقين محليًا وإقليميًا ودوليًا.

١- التأصيل الديني

يبدأ النص بالاستناد إلى نصوص قرآنية وتفسير ابن كثير، وهو تقليد مألوف فى خطاب داعش يهدف إلى إضفاء طابع شرعى على كل ما يلى من مواقف سياسية أو عسكرية. هذا التوظيف للنصوص الدينية لا يأتى فى سياق نقاش تفسيرى أو اجتهادي، بل فى إطار «الاستدعاء الانتقائي» للنصوص بما يخدم الفكرة الأساسية: تحويل الصراع فى سوريا من نزاع سياسي-اجتماعى معقد إلى معركة إيمانية عقدية. بهذا الشكل، تصبح كل الأطراف الأخرى خارج دائرة «التوحيد» مهما كانت خلافاتها مع النظام أو مع الغرب.

الاعتماد على «الولاء والبراء» كأساس للتوصيف هو استراتيجية خطابية تُقصى أى قراءة واقعية أو براغماتية. فبدل النظر إلى تحولات المشهد السورى كتفاعلات سياسية بين قوى محلية وإقليمية ودولية، يتم تصويرها باعتبارها امتحانًا دينيًا يحدد مصير الإيمان والكفر. هذا التوصيف يختزل الواقع، لكنه يوفر للمتلقى البسيط إطارًا سهلًا ومباشرًا لفهم الأحداث، حيث يصبح «كل ما هو خارج داعش» فى خانة الطاغوت.

بهذا، يتم تقييد أى محاولة للتفكير النقدى أو التحليل السياسى الواقعي. فمجرد التفكير فى أن النظام السورى الجديد قد تكون له حسابات سياسية مختلفة، أو أن هيئة تحرير الشام تتبنى تكتيكات براغماتية للبقاء، يُعتبر خروجًا عن «العقيدة الصحيحة». التأصيل الدينى إذًا أداة لاحتكار الحقيقة وتقديمها فى صورة يقينية مغلقة تمنع أى جدل أو مراجعة.

٢- ثنائية الخير والشر

النص يبنى خطابه على ثنائية صارمة: معسكر «الخير» المتمثل فى داعش، ومعسكر «الشر» الذى يضم النظام السورى الجديد وحلفاءه، بل وحتى الفصائل الإسلامية المنافسة مثل هيئة تحرير الشام. هذه الثنائية ليست جديدة، لكنها فى هذا العدد تأخذ طابعًا أكثر تطرفًا حين يتم وصف الخصوم الإسلاميين بالطواغيت الجدد الذين صنعتهم القوى الغربية.

بهذا، يوسّع داعش دائرة العدو إلى أقصى حد ممكن، بحيث لا يبقى أمام المتلقى سوى خيارين: إما الانضمام إلى داعش، أو الانضواء تحت «معسكر الطاغوت». هذا التقسيم لا يترك أى مساحة للحياد أو المراجعة أو حتى الاختلاف الجزئي. فهو خطاب يقصد به احتكار الشرعية الدينية والسياسية معًا، وتجريد الآخرين من أى مشروعية يمكن أن يكتسبوها من خلال تضحياتهم أو مواقفهم.

توسيع دائرة العدو بهذه الطريقة يخدم التنظيم فى تعبئة أنصاره وحمايتهم من «الإغراءات» أو «البدائل» التى قد تقدمها جماعات منافسة. لكنه فى الوقت نفسه يكشف عن أزمة عميقة: فكلما ضاقت خيارات داعش فى الميدان، اتجه إلى توسيع مفهوم «العدو» لتعويض خسارته للنفوذ الشعبى والسياسي.

٣- اللغة القطعية

الافتتاحية تعتمد على لغة مشبعة بالمفردات المطلقة: الكفر، الردة، الطاغوت، الخيانة، الصليبيون. هذه المفردات لا تترك مجالًا للتأويل أو النقاش، فهى تحمل حكمًا مسبقًا ونهائيًا على الأفراد والجماعات والدول. الخطاب هنا لا يناقش الواقع، بل يصدر أحكامًا نهائية غير قابلة للمراجعة، ليغلق الباب أمام أى اجتهاد مغاير.

هذه القطعية ليست مجرد أسلوب بلاغي، بل هى وسيلة لفرض السلطة الفكرية على المتلقي. فاللغة المطلقة تضع القارئ أمام خيارين: إما القبول الكامل بما يطرحه النص، أو الوقوع فى خانة «المتهم بالكفر والردة». بهذا الشكل، يُجبر الأتباع على الانصياع، خوفًا من أن يوصموا بالانحراف أو الخيانة.

كما أن هذه اللغة تحجب التعقيدات الواقعية. فبدل الحديث عن المصالح المتشابكة، والتحالفات المرحلية، والديناميات الاجتماعية التى أنتجت «النظام السورى الجديد»، يتم إفراغ الواقع من كل تفاصيله، وإعادة صياغته كحكاية مبسطة: «إسلام مقابل كفر». وهذا يخلق خطابًا تعبويًا فعالًا على المدى القصير، لكنه فى المدى البعيد يُفقد التنظيم القدرة على التعامل مع الواقع بتعقيداته.

٤- المقارنة المضللة

من أكثر الأدوات إثارة فى النص هى المقارنة بين «مجزرة الكيماوي» التى ارتكبها النظام السابق، وبين ما تسميه الافتتاحية «مجزرة الجولاني». هذه المقارنة تقوم على استغلال الرمزية الإنسانية المأساوية لمجزرة الكيماوي، وهى واحدة من أكثر الجرائم وحشية فى الذاكرة السورية، من أجل تحويل الغضب الشعبى نحو الفصائل المنافسة بدل النظام السوري.

النص يحاول أن يثبت أن ما فعله «الجولاني» أخطر وأبشع من الكيماوي، ليس من حيث إزهاق الأرواح، بل من حيث «قتل الغيرة فى النفوس» و«شرعنة الردة والخيانة». بهذا، ينقل داعش الصراع من مستوى الجرائم المادية إلى مستوى الجرائم الرمزية والعقدية. فى هذا الإطار، تصبح الخيانة العقدية أخطر من القتل الجماعي، مما يعكس الأولوية التى يمنحها التنظيم "لصفاء العقيدة" على حساب حياة البشر.

هذه المقارنة تحمل دلالات تضليلية واضحة. فهى تعكس عجز داعش عن مواجهة النظام السورى بشكل مباشر، ومحاولته إعادة توجيه البوصلة الشعبية بعيدًا عن النظام إلى خصومه الإسلاميين. كما أنها تكشف عن نزعة انتقائية فى استحضار المآسي: الكيماوى يُستخدم كأداة بلاغية لا كقضية إنسانية، والهدف النهائى هو خدمة سردية التنظيم لا إحقاق العدالة للضحايا.

الرسائل المسكوت عنها

لا يقتصر خطاب النبأ على ما يعلنه مباشرة، بل يكشف- من حيث لا يقصد- عن جملة من الرسائل الضمنية التى تعكس وضع التنظيم الراهن وأزماته الداخلية والخارجية. هذه الرسائل لا تظهر فى ظاهر النص المليء بلغة القوة واليقين، لكنها تتسرب من بين السطور، لتقدّم صورة أكثر واقعية عن موقع التنظيم فى المشهد السورى والإقليمي. ومن أبرز هذه الرسائل: الإقرار بالهزيمة الميدانية، انحسار التأييد الشعبي، وإعادة تدوير ثنائية المؤامرة.

١- الإقرار بالهزيمة الميدانية

رغم أن النص يتحدث بلغة القوة والتمكين، إلا أنه يكشف ضمنًا أن داعش لم يعد يملك زمام المبادرة العسكرية فى سوريا. فبدل استعراض عمليات أو فتح جبهات، ينشغل الخطاب بإصدار توصيفات وتأصيلات نظرية. هذا التحول من «لغة الإنجاز» إلى «لغة التوصيف» هو إشارة إلى انحسار القدرة الميدانية للتنظيم، وتراجعه من لاعب فعّال إلى مجرد معلّق على الأحداث.

كما أن التركيز على الحديث عن خصومه من الفصائل الأخرى، مثل «الجولاني»، أكثر من الحديث عن مواجهاته مع النظام السورى أو القوى الدولية، يكشف أن التنظيم بات أسير دائرة ضيقة من الصراع لا تسمح له بإبراز قدراته العسكرية. فالانشغال بالعدو القريب «المنافس الإسلامي» بدل العدو البعيد «النظام والغرب» يعكس أزمة فى ترتيب الأولويات فرضتها الهزائم الميدانية.

وهذا الإقرار الضمنى بالهزيمة يُستخدم فى الوقت نفسه كأداة خطابية: إذ يحاول التنظيم تحويل هزيمته العسكرية إلى «ابتلاء عقدي» يُظهره فى صورة الطائفة المنصورة الممتحنة، لا فى صورة التنظيم الضعيف. لكن خلف هذا التبرير تكمن حقيقة أن داعش فقد القدرة على السيطرة على الأرض، وصار يعيش فى إطار خطاب دعائى أكثر منه مشروعًا ميدانيًا.

٢- انحسار التأييد الشعبي

من أبرز الإشارات التى يرسلها النص دون قصد هى إقراره بأن «الشارع السوري» لم يُبدِ اعتراضًا على ما وصفته الافتتاحية بـ«مجزرة الجولاني». هذا الاعتراف الضمنى يكشف أن التنظيم لم يعد يحظى بالحاضنة الشعبية التى كان يعتمد عليها فى بداياته. فغياب رد الفعل الشعبى بالنسبة لهم ليس مجرد تفصيل عابر، بل هو ضربة عميقة لشرعية مشروعهم.

بدلًا من مواجهة هذه الحقيقة، يحاول الخطاب تعويضها بإعادة إنتاج لغة تعبئة مشحونة بالعاطفة والعقيدة، مستخدمًا أدوات المظلومية والتحريض. فالتنظيم يلجأ إلى تصوير الصمت الشعبى باعتباره نتيجة «الفتنة» أو «الاستلاب»، لا باعتباره رفضًا ضمنيًا لمشروعه الدموي. بهذا، يحاول داعش تبرئة نفسه من المسئولية عن فقدان الثقة الشعبية، وإلقاء اللوم على "المجتمع المنحرف" أو «المضلَّل».

هذا التحول يكشف أيضًا عن فقدان داعش القدرة على استقطاب شرائح جديدة من الداخل السوري، ما يفسر اعتماده المتزايد على خطاب عابر للحدود يستهدف المسلمين فى الغرب وإفريقيا وآسيا، حيث ما يزال بإمكانه استمالة أفراد عبر الإنترنت والدعاية الإعلامية. بمعنى آخر، التنظيم بات يخاطب جمهورًا خارجيًا أكثر مما يخاطب مجتمعه المحلي.

٣- إعادة تدوير ثنائية المؤامرة

النص يركّز على ما يسميه «الصناعة الغربية للطواغيت»، وهو توصيف يعيد إنتاج ثنائية المؤامرة التى طالما لجأ إليها التنظيم لتفسير الواقع. هذا الإطار المؤامراتى يخفى عجز داعش عن تقديم قراءة واقعية للتعقيدات المحلية والإقليمية فى سوريا، سواء تعلقت بدور روسيا وإيران أو بتوازنات القوى بين الفصائل المسلحة.

الحديث عن أن الغرب «صنع الجولاني» أو «أنتج طواغيت جدد» يقدّم تفسيرًا تبسيطيًا يريح المتلقى من عناء فهم شبكة المصالح والتحالفات المعقدة. فبدل مواجهة الأسئلة الصعبة حول أسباب الانقسامات داخل الحركة الجهادية، أو فشل داعش فى الحفاظ على مناطق نفوذه، يقدَّم الأمر ببساطة على أنه «مؤامرة خارجية».

هذه المقاربة المؤامراتية، وإن كانت نافعة تعبويًا فى المدى القصير لأنها توحّد الأتباع حول عدو خارجى مشترك، إلا أنها تُظهر ضيق أفق التنظيم وفشله فى التعامل مع الواقع. فهى تنفى عنه صفة الفاعل السياسى وتحوّله إلى «ضحية دائمة»، وهو ما يضعف جاذبيته مع مرور الوقت، خاصة مع انكشاف زيف خطاب «التمكين» الذى يرفعه.

الدلالة والسياق

تكشف افتتاحية صحيفة النبأ عن أبعاد متعددة تتجاوز مجرد الخطاب الدعائي، فهى تعكس رؤية داعش لاستثمار التناقضات القائمة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. ومن خلال تتبع السياق الذى يوظفه النص، يمكننا ملاحظة كيف يحاول التنظيم أن يظهر بمظهر الفاعل المركزى القادر على إعادة تعريف المشهد الجهادي، وصياغة علاقاته مع الأعداء والخصوم على السواء.

١- محليًا «سوريا»

يركز النص على حالة الانقسام داخل الفصائل المسلحة فى الشمال السوري، حيث يقدّم «هيئة تحرير الشام» باعتبارها قد فقدت مشروعيتها الجهادية. فالتنظيم يصفها بأنها لم تعد تختلف عن النظام السورى أو عن «الطواغيت العرب»، وهو خطاب يهدف إلى نزع الشرعية الدينية والسياسية عنها أمام جمهورها. هذه اللغة ليست مجرد توصيف بل سلاح أيديولوجى يستثمر فى تعميق الهوة بين الفصائل.

يعكس هذا الخطاب استراتيجية داعش التقليدية القائمة على «تكفير الخصوم» داخل الساحة السنية قبل مواجهة الخصوم الخارجيين. فبدلًا من توجيه الخطاب نحو النظام أو القوى الدولية، يركز النص على مهاجمة أقرب المنافسين له، فى محاولة لتقويض أى بديل جهادى منافس. وبهذا المعنى، فإن التنظيم يواصل العمل على احتكار «الشرعية الجهادية» داخل الساحة السورية، مستثمرًا الانقسامات لصالحه.

على مستوى الميدان، يؤدى هذا الخطاب إلى تعميق الشروخ والانقسامات بين صفوف المعارضة المسلحة، ما يضعف جبهتها الموحدة فى مواجهة النظام. وهذا بالضبط ما يسعى إليه داعش: إبقاء البيئة السورية فى حالة صراع داخلي، بما يمنحه فرصًا لإعادة التمدد أو استقطاب عناصر محبطة من الفصائل الأخرى. فالنص فى النهاية ليس مجرد خطاب، بل أداة عملية لإعادة صياغة الاصطفافات الميدانية.

٢- إقليميًا

يتجاوز النص الحدود السورية ليضع معركته فى إطار الصراع الأوسع بين الإسلاميين والأنظمة فى المنطقة، مثل مصر ودول الخليج. هذه المقاربة تمنح التنظيم قدرة على ربط قضاياه المحلية بمظلومية أكبر، ما يجعله يبدو وكأنه يقود معركة ممتدة بين «المستضعفين» والأنظمة «الطاغوتية».

هذه الاستراتيجية تخدم هدفًا مزدوجًا: من جهة، توسيع دائرة الصراع ليشمل جمهورًا عربيًا أوسع يتجاوز حدود سوريا والعراق، ومن جهة أخرى، عزل الإسلاميين المنافسين الذين يحاولون العمل السياسى أو العسكرى ضمن قواعد إقليمية مرنة. فالنص يريد القول إن كل هذه القوى، سواء كانت حركات إسلامية سياسية أو جماعات مسلحة أخرى، قد خانت مشروع «الجهاد الحقيقي».

بهذه الطريقة، يقدم داعش نفسه كـ«الممثل الشرعى الوحيد» للجهاد فى المنطقة، فى مواجهة الأنظمة من جهة، والحركات الإسلامية المنافسة من جهة أخرى. وهو طرح يذكّر باستراتيجية التنظيم منذ نشأته، حيث يرفض أى تعددية فى المشهد الإسلامي، ويسعى لفرض هيمنته الرمزية والعسكرية على كل ساحات الصراع.

٣- دوليًا

لا يقتصر خطاب الافتتاحية على الدوائر العربية والإسلامية، بل يوجه رسائل صريحة إلى الغرب. الحديث عن وصول «الإرهاب العادل» إلى أوروبا وإفريقيا يُستخدم لإثبات أن المعركة مع داعش لم تنتهِ، وأن التنظيم ما زال قادرًا على تجاوز الحدود الجغرافية. هذه الرسالة تشكل تهديدًا مباشرًا للدول الغربية التى تعتقد أنها نجحت فى إضعاف التنظيم.

فى الوقت نفسه، يخاطب النص أنصار التنظيم ومؤيديه حول العالم برسالة طمأنة: أن المشروع ما زال حيًّا، وأن «الخلافة» رغم سقوطها جغرافيًا لم تسقط معنويًا. الإشارة إلى عمليات فى إفريقيا وأوروبا تُوظف كدليل على استمرار النشاط العابر للحدود، مما يعزز الروح المعنوية للأنصار ويحفز على تجنيد عناصر جديدة.

الأهم أن هذا البعد الدولى يُعيد إلى الأذهان صورة «داعش الكوني»، وليس مجرد جماعة محلية محصورة فى الصحراء السورية- العراقية. فالتنظيم يسعى إلى إعادة إنتاج نفسه كقوة عابرة للدول، يمكنها ضرب الخصوم فى أى مكان وزمان، وهو ما يشكل أساسًا لاستمراريته كفكرة حتى لو تراجعت قدرته كتنظيم ميداني.

الأثر على تنامى الإرهاب

رغم أن تنظيم داعش قد تراجع ميدانيًا خلال السنوات الأخيرة وفقد الكثير من معاقله الرئيسة فى سوريا والعراق، إلا أن خطابه الجديد يعكس محاولة واضحة لإعادة التموضع وإحياء مشروعيته الأيديولوجية. فبدلًا من خطاب «التمكين» الذى ساد فى فترة السيطرة على المدن، يتجه التنظيم نحو إعادة تسويق العنف باعتباره خيارًا لا مفر منه، بل ومنحوتًا فى جوهر العقيدة الجهادية كما يراها. هذا التحول لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد خطاب دعائي، بل هو استراتيجية واعية تستهدف إعادة تدوير الإرهاب فى الساحات المحلية والإقليمية والدولية، من خلال ثلاث آليات رئيسة: شرعنة العنف مجددًا، تغذية الصراعات الداخلية، وتدويل التهديد.

١- إعادة الشرعنة للعنف

يحاول تنظيم داعش من خلال مصطلحاته الجديدة، مثل «الإرهاب العادل»، إعادة إضفاء طابع القداسة على العنف المسلح. فهو يدرك أن خطاب «الخلافة» فقد بريقه بعد الهزائم الميدانية، لذلك يعمد إلى إعادة تعريف العنف باعتباره وسيلة مشروعة للانتقام من «الطغاة» و«الكفار». هذا الطرح يسعى إلى تجاوز الانتقادات التى وجهها حتى بعض التيارات الجهادية له، وإلى إعادة بناء صورة المقاتل الداعشى باعتباره صاحب رسالة وليس مجرد قاتل.

هذا الخطاب لا يخاطب المقاتلين فقط، بل يحاول النفاذ إلى عقول الشباب الساخط والمهمش، سواء فى الشرق الأوسط أو فى الغرب، عبر تبرير العنف بوصفه عدالة كونية. فحين يُوصف الإرهاب بأنه «عادل»، فإن التنظيم يسعى إلى تحويله من جريمة إلى واجب شرعى وأخلاقي، وهو ما يفتح الباب أمام موجة جديدة من التجنيد.

وفى هذا السياق، يصبح الإرهاب- وفق المنظور الداعشي- ليس مجرد وسيلة لتحقيق هدف سياسى أو عسكري، بل غاية فى حد ذاته، تُربط بالدين والعقيدة. وهذا التحول يُخيف لأنه يعنى أن التنظيم لم يعد بحاجة إلى مشروع دولة أو أرض، بل يكفيه خطاب تعبوى قادر على إنتاج "مقاتلين عابرين للحدود" يؤمنون بأن العنف غاية بذاتها.

٢- تغذية الصراعات البينية

بوصف خصومه من الفصائل الإسلامية الأخرى بـ«الطواغيت»، يفتح داعش الباب أمام صراعات مسلحة داخل معسكر المعارضة السورية، الذى يعانى أصلًا من الانقسامات. هذه اللغة التكفيرية تمنح مشروعية لاستهداف الفصائل التى تختلف معه فكريًا أو تنظيميًا، مما يعزز احتمالات عودة المواجهات الداخلية التى شهدتها الساحة السورية فى سنوات سابقة.

هذا التوجه لا يخدم فقط فكرة «التطهير» الداخلى للتنظيم، بل يمنحه فرصة للبقاء من خلال استنزاف القوى المنافسة. فكلما انشغلت الفصائل بقتال بعضها البعض، تضاءلت فرص توحيد جبهة معارضة قوية فى مواجهة النظام السوري، وهو ما يتيح لداعش هامش حركة أوسع لإعادة تنظيم صفوفه فى مناطق البادية أو الأطراف.

على المدى الطويل، تغذية هذه الصراعات تعنى تكريس الفوضى فى المشهد السورى والإقليمى عمومًا. فالتنظيم يستفيد من الانقسام وغياب الاستقرار، ويحوّل الفصائل الأخرى إلى أعداء أقرب وأسهل استهدافًا من القوى الدولية. وهو بذلك يطيل أمد حالة عدم اليقين التى تمثل بيئة مثالية لانتعاش الإرهاب.

٣- التدويل المستمر

من خلال تركيزه على البعد العالمى فى خطابه الجديد- سواء باستهداف أوروبا أو التهديد فى إفريقيا أو التحريض ضد الولايات المتحدة- يواصل داعش إعادة إنتاج صورته كتنظيم عابر للحدود. هذا التركيز يخاطب شريحة مختلفة من المتابعين: الخلايا النائمة، والمناصرين الأفراد، والمتأثرين عبر الإنترنت بالفكر الجهادي.

استدعاء صورة «العدو البعيد» يسعى إلى تحفيز ما يُعرف بـ«الذئاب المنفردة»، وهم الأفراد الذين ينفذون هجمات فى بلدانهم دون ارتباط تنظيمى مباشر. ورغم أن هذه الهجمات قد تبدو صغيرة نسبيًا من حيث الخسائر، إلا أن أثرها الإعلامى والسياسى كبير، لأنها تعيد تسليط الضوء على داعش كتهديد عالمى لم ينته بعد.

كما أن ربط الخطاب بالساحات الإفريقية- مثل الساحل ونيجيريا- يعكس وعى التنظيم بأن مستقبل تمدده مرتبط بالقارات التى تعانى هشاشة أمنية واقتصادية. فبهذا التدويل، يسعى داعش إلى الانتقال من كونه مجرد فاعل محلى أو إقليمي، إلى لاعب فى شبكة إرهابية عالمية تتغذى على الأزمات فى أكثر من قارة.

وثيقة

الافتتاحية ليست مجرد نص تعبوي، بل هى وثيقة تكشف عن استراتيجية داعش الجديدة القائمة على:

تحويل الخصوم الإسلاميين إلى «طواغيت» لشرعنة قتالهم.

استثمار إخفاقاته الميدانية لإعادة إنتاج خطاب «المؤامرة» و«الابتلاء».

إعادة صياغة «الإرهاب» فى قالب دعوي- شرعى يجذب شرائح يائسة من الخيارات السياسية.

لكن، قراءة الخطاب تكشف أيضًا عن تراجع الزخم الشعبى وانحسار المساحات الجغرافية، مما يجعل التنظيم أكثر اعتمادًا على الحرب الرمزية والإعلامية بدل الميدان.

 كيف يعيد التنظيم الإرهابى إنتاج نفسه محليا ودوليًا؟ التراجع الميدانى يجبر الدواعش على بناء ثنائية «الطاغوت» فى مواجهة «الإرهاب العادل»

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق وزير الخارجية: مصر تؤكد رفضها الكامل لمحاولات زعزعة وحدة السودان ومؤسساته الوطنية
التالى "إي تاكس" تحتفي بنجاح وزارة المالية في "التسهيلات الضريبية"