أخبار عاجلة
محتوياتها تفحمت.. كواليس حريق شقة سكنية بالهرم -

“لا علاج.. لا شاهد.. لا نجاة”.. خان يونس بين الموت والذاكرة

“لا علاج.. لا شاهد.. لا نجاة”.. خان يونس بين الموت والذاكرة
“لا علاج.. لا شاهد.. لا نجاة”.. خان يونس بين الموت والذاكرة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم يكن قصف الاحتلال الإسرائيلي لمجمع ناصر الطبي في خان يونس حدثًا عابرًا، ولا مجرد ضربة عسكرية في سياق حرب طويلة. إنما كان رسالة مركّبة، تضرب في عمق الوعي الفلسطيني والعربي والعالمي معًا. فمجمع ناصر هو أكبر مستشفى عامل في جنوب قطاع غزة، والملاذ الأخير للجرحى بعد تدمير أو شلّ المستشفيات الكبرى في الشمال والوسط، مثل الشفاء والأقصى. ولم يكن مجمع ناصر الطبي مجرد مبنى إسمنتي يضم غرفًا وأجهزة، بل كان آخر ما تبقّى للفلسطينيين من خيوط النجاة. وهناك حيث تهرع العائلات بجرحاها، وتلوذ الأمهات بأمل أن يجدن سريرًا لطفل نزف كثيرًا أو شيخٍ أنهكه القصف. ومع ذلك، جاء الاستهداف الإسرائيلي ليقول بوضوح: حتى الطب صار هدفًا، حتى المستشفى لم يعد ملاذًا، استهدافه يعني ببساطة: لا علاج، لا أمل، لا نجاة.

تحمل الضربة دلالات عسكرية واضحة؛ فهي ليست عشوائية، بل خطوة محسوبة ضمن سياسة منهجية تهدف إلى شلّ المنظومة الصحية في القطاع، وترك المصابين لمصيرهم. إنها محاولة لإخضاع المدنيين بالحرمان من أبسط مقومات البقاء، عبر ضرب "قلب الصمود" في الجنوب. لكن الأبعد من ذلك، أن القصف أسفر عن استشهاد المصور الصحفي حسام المصري، أحد أعين الحقيقة في تلفزيون فلسطين. لم يكن اغتياله بالصدفة، بل جزءًا من سياسة أوسع طالما مارستها إسرائيل: اقتل الشاهد قبل أن يوثّق الجريمة. فالإعلامي في غزة لم يعد ناقلًا للأحداث فحسب، بل تحول إلى هدف عسكري، تمامًا كما هو المقاتل، لذلك شلّ المنظومة الطبية في الجنوب بعد أن فُككت منظومات الشمال والوسط. فالمستشفى الكبير يعني القدرة على إسعاف أعداد ضخمة من الجرحى، وضربه يساوي رفع نسبة الوفيات بشكل حاد، وتحويل كل إصابة بسيطة إلى مأساة مميتة. إنها حرب على الزمن، فيها الجريح الذي كان يجد فرصة للحياة، يُترك اليوم للموت البطيء.

إن قصف مستشفى بحجم ناصر مع اغتيال صحفي على عتبته، هو رسالة مزدوجة: للمريض لا علاج، وللعالم لا صورة. إنها محاولة لطمس الدم مرتين؛ مرة بالجريمة، ومرة بمنع الكاميرا من نقلها، ويأتي اغتيال الصحفيين جزء من استراتيجية إسرائيلية قديمة: أطفئ الكاميرا قبل أن تُشهر الحقيقة.

لكن رغم قسوة الضربة، فإنها تكشف عن بعد رمزي عميق، في خان يونس التي أصبحت "العاصمة البديلة" بعد تهجير الشمال، يجري تفريغها الآن من مؤسساتها الأساسية، في تمهيد محتمل لمعركة رفح الكبرى. ويضرب فيها الكيان البنية الطبية والإعلامية لتفتح الطريق أمام أي اقتحام لاحق، بلا مقاومة وبلا شهود. وفي الخلفية، هناك ضغط غير مباشر على مصر، لتتحمل عبء المصابين والجرحى عبر معبر رفح، في محاولة لنقل الأزمة خارج غزة، فإن خلف هذا كله، يطلّ بُعد إقليمي لا يقل أهمية، كلما دُمّرت مستشفيات غزة، اقتربت أنفاس الجرحى من معبر رفح. الرسالة غير المباشرة للقاهرة واضحة: "تحملوا العبء أو شاهدوا الجرحى يموتون على الأبواب". إنها محاولة إسرائيلية آثمه لنقل الأزمة من غزة إلى مصر، وصناعة معادلة جديدة تُثقل كاهل الجار الجنوبي.

إن استهداف المستشفيات والإعلاميين لم يعد حادثًا فرديًا، بل أصبح خريطة ممنهجة: من الشفاء إلى الأقصى إلى ناصر. إنها حرب على "ذاكرة غزة"، على الشهود وعلى مؤسسات الأمل. ومع ذلك، يبقى للصحفيين الشهداء معنى لا يُمحى. فكل مصور يُستشهد وهو يحمل كاميرته، يترك عدسة مفتوحة على العالم، لا يمكن للاحتلال أن يغلقها. حسام المصري وأمثاله ليسوا مجرد أسماء على لائحة الضحايا؛ إنهم أيقونات الذاكرة الفلسطينية، الذين يصرّون على أن تبقى الحقيقة أبلغ من الرصاص، وأقوى من القصف.

فإن رحيل حسام المصري، ورفاقه الخمسة من الصحفيين هو يوم أسود في تاريخ المهنة، إذ تحولت الكاميرا من وسيلة نقل الحقيقة إلى تذكرة موت لحاملها. وترك كاميرته شاهدًا على أن الصورة أقوى من المدفع، رحلوا كما رحل قبله العشرات من زملائه، وكلهم يصرّون على أن ينقلوا الدمعة قبل الدم، والصراخ قبل الصمت. لقد صار الصحفي في فلسطين جنديًا بلا سلاح، يحمل الكاميرا كصليب مقدس، يرفعها في وجه آلة القتل وهو يعلم أن ثمنها قد يكون حياته. وهؤلاء ليسوا مجرد أرقام في قوائم الضحايا؛ إنهم ضمير الحقيقة، وأيقونات المقاومة الناعمة. كل مصور يُستشهد يترك عدسة مفتوحة على العالم، لا يمكن لأي قصف أن يغلقها. ومن هنا، تتحول دماؤهم إلى نص خالد، يكتب أن الحقيقة لا تموت حتى لو أسقطت الأجساد.

رحم الله شهداء الصحافة، الذين كتبوا بدمهم ما عجزت الكلمات أن تقوله، وحملوا على أكتافهم الكاميرا كصليب مقدّس، حتى صار استشهادهم شهادةً على الجريمة، لا يمكن طمسها مهما كان الدمار.

إن المناشدات التي خرجت من المؤسسات الصحفية المحلية والعربية لا تكفي وحدها، والمسؤولية اليوم تقع على عاتق الصحافة الدولية واتحاداتها، لتقول بوضوح إن قتل الصحفيين جريمة ممنهجة لا تسقط بالتقادم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق انتخابات الشيوخ 2025.. الدكتور أشرف زكي يدلي بصوته بمدرسة أبو بكر الصديق الرسمية للغات
التالى مظاهرة للمصريين في النمسا تأييدا للقيادة السياسية والتضامن مع الشعب الفلسطيني