يبدو أن عهد الانتقام في ولاية دونالد ترامب الثانية قد بدأ للتو، هذا ما ترجحه مجلة "نيويوركر" الأمريكية في مقال تناول مداهمة منزل ومكتب جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق الذي تحول إلى أحد أبرز منتقدي ترامب.
وقد وقعت المداهمة في منزل بولتون في بيثيسدا بولاية ماريلاند، ومكتبه في واشنطن العاصمة، حيث قام عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي بمصادرة محركات أقراص مواد إلكترونية ووثائق تخص بولتون، في إطار تحقيق أعيد فتحه بشأن اتهامات له بإفشاء معلومات سرية في مذكراته التي تحمل عنوان "بالغرفة التي شهدت تلك الأحداث" الصادرة عام 2020. وكان التحقيق الأصلي قد أغلق في ولاية الرئيس السابق جو بايدن عام 2021، لكنه استؤنف بأمر من إدارة ترامب الجديدة، مما أثار اتهامات بأنه انتقام سياسي.
ولم يكن ترامب يخفي خططه أبدًا، فخلال حملته الانتخابية للعودة إلى البيت الأبيض في 2024، تبنى صراحةً نهجًا قائمًا على الانتقام من خصومه. ورغم توسلات حلفائه، كان واضحًا للغاية في نواياه. وأشار المقال إلى مقابلة له مع الطبيب النفسي التلفزيوني فيل مكجراو في يونيو 2024، حيث قال له مكجراو إن ليس لديه وقت للانتقام، فرد ترامب بابتسامة: "الانتقام يستغرق وقتًا، وأحيانًا يكون مبررًا".
وفي تصريحات أخرى، وصف ترامب خصومه مثل بولتون بأنهم "خونة"، خاصة بعد نشر الكتاب الذي كشف تفاصيل عن إدارته، بما في ذلك فشل محادثاته مع كوريا الشمالية وتدخلاته في الشؤون الأوكرانية، وتحولت كلمات ترامب عن الانتقام إلى حقيقة وأمر واقع مع انتشار خبر مداهمة مكتب ومقر إقامة جون بولتون، الذي أصبح من أكثر منتقدي ترامب صراحةً.
ورغم قلة التفاصيل الرسمية الأولية، أشارت التقارير إلى أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يبحث عن أدلة على أن بولتون أفشى معلومات سرية في مذكراته، بما في ذلك تفاصيل عن اجتماعات أمنية حساسة. لم يكن بولتون ليُفاجأ بهذا الهجوم، فقد حذر بنفسه في طبعة جديدة من كتابه أن "ترامب لا يهتم إلا بالانتقام لنفسه، وهذا سيستهلك الكثير من فترة ولايته الثانية". وفي مقابلة أجريت معه قبل المداهمة بـ12 يومًا، سئل بولتون عما إذا كان يخشى من ترامب، فرد بأنه يتوقع مثل هذه الإجراءات.
وأوضح ترامب في الأشهر الأولى من عودته إلى منصبه في يناير 2025 أن تهديداته بالانتقام لم تكن مجرد خطابات حماسية. لقد سحب تصاريح أمنية من عشرات المسؤولين السابقين، وطرد موظفين مدنيين في الوكالات الحكومية، وطالب وزارة العدل بفتح تحقيقات ضد خصومه. كما أطلقت وزارة العدل تحقيقات ضد آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات السابق في مجلس النواب، وليتيتيا جيمس، المدعية العامة لنيويورك، وهما من أبرز خصومه القانونيين الذين ساهموا في قضايا ضده مثل تحقيق الاحتيال في نيويورك. وفي أغسطس الجاري، أصدرت الوزارة مذكرات استدعاء لجيمس بشأن مزاعم احتيال في الرهن العقاري، وفتحت تحقيقًا مشابهًا ضد شيف، مما دفع إلى اتهامات بأنها حملات انتقامية. كما أن ترامب أمر بإعادة فتح قضايا قديمة ضد آخرين مثل جيم كومي وأندرو ماكابي، مديري مكتب التحقيقات الفيدرالي السابقين.
ولكن ما يثير القلق هو أن فريق ترامب لم يعد يحاول إخفاء أجندته الانتقامية. فبعد أن أكد كاش باتل، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي المعين حديثًا في فبراير 2025، تحت القسم أنه لن يسمح للوكالة بالانخراط في حملات انتقامية، غرد يوم المداهمة: "لا أحد فوق القانون... عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي في مهمة". وهذا يتناقض بشكل صارخ مع ما قاله أمام الكونجرس، حيث تعهد بعدم تسييس الوكالة، لكنه سبق أن وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي بـ"الدولة العميقة" ووعد بإغلاق مقرها في واشنطن. وفي مقابلة مع قناة فوكس نيوز، أشاد رئيس لجنة الرقابة في مجلس النواب جيمس كومر بباتل لـ"محاسبة الدولة العميقة".
وعندما سُئل ترامب عن المداهمة في مؤتمر صحفي يوم 23 أغسطس 2025، نفى أي علم مسبق، لكنه لم يستطع إخفاء غضبه من بولتون، الذي واصل انتقاده لترامب. فقد انتقد بولتون قمة ترامب مع بوتين في هلسنكي عام 2018، ووصفها بأنها لم تحقق أي نتائج ملموسة، مما أثار غضب ترامب الذي دافع عنها كـ"نجاح كبير". كما وصف بولتون في كتابه ترامب بأنه "غير مؤهل" للرئاسة، مشيرًا إلى قراراته الخارجية المتهورة مثل سحب القوات من سوريا.
وتؤكد مداهمة منزل بولتون ومكتبه أن تصرفات ترامب ليست خارج السياق التاريخي، فالأدوات التي استخدمتها الديكتاتوريات حول العالم لإسكات المعارضين يتم توظيفها الآن من قبل رئيس أمريكا. وكما قال السياسي الشعبوي هوي لونج في الثلاثينات، فإن الفاشية الأمريكية لن تحتاج إلى إجراء عسكري، بل "ستحتاج فقط إلى توافر الرئيس والوزراء المناسبين". ومع تصاعد التحقيقات ضد أكثر من 60 شخصًا من قائمة "أعداء" ترامب، كما ذكرت الجارديان، يخشى مراقبون من تآكل استقلالية المؤسسات القضائية، مما قد يهدد الديمقراطية الأمريكية في السنوات المقبلة.