في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، تتكشف مؤشرات عن تغير في المسارات السياسية والإعلامية داخل إسرائيل، تقود نحو ما يمكن وصفه بـ"صفقة جزئية" بين حكومة الاحتلال الإسرائيلية وحركة حماس، في ظل ضغوط داخلية متصاعدة من عائلات الأسرى الإسرائيليين، وتوترات متعلقة بغياب لجنة تحقيق مستقلة في إخفاقات 7 أكتوبر 2023.
وعلى الرغم من خطاب التهديدات العسكرية من تل أبيب، ثمة تحليلات إسرائيلية تشير إلى أن هذا الخطاب ذاته قد يكون واجهة ضغط تفاوضي، بالتوازي مع تحركات مصرية وقطرية وأمريكية لدفع مسار التفاهمات.
التصعيد الإعلامي والعسكري في سياق تفاوضي
يرى المحلل العسكري الإسرائيلي عاموس هرئيل في مقال له بصحيفة “هآرتس” العبرية، أن تهديدات اجتياح مدينة غزة، المدعومة بتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تخدم هدفا مزدوجا: ممارسة ضغط عسكري علني على حركة حماس، وتهيئة الرأي العام الإسرائيلي لصفقة تبادل أسرى محتملة، توصف بـ"الجزئية".
وبحسب هرئيل التصريحات المتكررة عن "اقتراب الحسم" أو "الاجتياح الشامل" لا تبدو مسارا عسكريا حتميا، بل جزءا من استراتيجية تفاوضية متقنة، خاصة بعد أن أبدت حماس موافقة مبدئية على مقترح يتضمن إطلاق سراح عشرة أسرى أحياء وعدد من الجثامين مقابل انسحاب تدريجي إسرائيلي وإفراج عن أسرى فلسطينيين.
دونالد ترامب بين الدعم والمكاسب السياسية
تزامن هذا الحراك مع دخول ترامب مجددا على خط الأزمة، عبر منشورات تفاخر فيها بتحرير "مئات الأسرى" من قبضة حماس، رغم أن العدد الفعلي لا يتجاوز 31 أسيرا.
يرى هرئيل أن هذا التضخيم الإعلامي يعكس رغبة ترامب في تحقيق مكاسب سياسية، وربما البحث عن اختراق دولي يقوي من فرصه لنيل جائزة نوبل للسلام، خاصة بعد إخفاقه في الملف الأوكراني.
وقال إن علاقة ترامب بنتنياهو تتجاوز الدعم العلني، إذ قد يشكل هذا التفاهم غير المعلن محور تنسيق مع وسطاء مثل مصر وقطر، يهدف إلى دفع حماس وإسرائيل نحو الزاوية القبول بتنازلات.
ضغط عائلات الأسرى وتضارب المواقف داخل حكومة الاحتلال
برزت في الآونة الأخيرة موجة جديدة من الاحتجاجات تقودها عائلات الأسرى الإسرائيليين، تطالب بتسريع صفقة التبادل. هذا الضغط، بحسب التحليل، يعد عنصرا حاسمًا في تغيير المعادلات داخل حكومة بنيامين نتنياهو، التي اعتادت تسريب أخبار تحمل حماس مسؤولية تعثر المفاوضات، بينما تكشف الوقائع أن المماطلة غالبًا ما تكون بدافع حسابات نتنياهو الداخلية.
في الوقت نفسه، يظهر المعسكر اليميني المتطرف قلقا من احتمال تمرير صفقة دون موافقتهم. تهديدات الوزيرين إيتمار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش بإسقاط الحكومة في حال قبلت صفقة جزئية تظهر هشاشة التحالف الحاكم. ومع ذلك، يوضح هرئيل أن نتنياهو قد يستخدم هذه المعارضة الداخلية كذريعة للمماطلة أو كمناورة لتجميل موقفه أمام الرأي العام.
إخفاقات 7 أكتوبر ومطلب لجنة تحقيق مستقلة
رغم مرور وقت طويل على أحداث 7 أكتوبر، لا تزال إسرائيل تفتقر إلى لجنة تحقيق رسمية مستقلة، وهو ما يثير غضبا واسعا لدى عائلات الأسرى والعديد من فئات المجتمع. في ظل هذا الغياب، بدأ مراقب الدولة متنياهو أنغلمان بلقاءات مع مسؤولين أمنيين، لكن تبعيته لنتنياهو تجعله غير مؤهل في نظر كثيرين لتقديم تحقيق نزيه، ما يعزز المطالبة بلجنة برئاسة قاض من المحكمة العليا، تحمل القيادة السياسية والأمنية مسؤولية الفشل.
كارثة إنسانية في غزة تحت نيران الحرب
على الجانب الآخر من الصراع، تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة لليوم الـ683، مخلفة عشرات آلاف الشهداء والجرحى، في واحدة من أكثر الحروب دموية في العصر الحديث. بحسب وزارة الصحة في غزة، تجاوز عدد الشهداء منذ 7 أكتوبر 62,000، بينما يعاني القطاع من كارثة إنسانية غير مسبوقة، بما في ذلك وفاة 266 شخصًا نتيجة المجاعة، نصفهم تقريبًا من الأطفال.
استهداف الجيش الإسرائيلي لأحياء مثل الزيتون والصبرة، وتصاعد أعداد الضحايا الذين يسقطون أثناء محاولاتهم الحصول على المساعدات الإنسانية، يثير استنكارا دوليا متزايدا، ويضع إسرائيل في مواجهة اتهامات بانتهاك القانون الدولي الإنساني.
تحذيرات اقتصادية من احتلال غزة
في سياق متصل، أطلق محافظان سابقان لبنك إسرائيل، كارنيت فلوغ ويعكوف فرانكل، تحذيرا صريحا من العواقب الاقتصادية الكارثية في حال قررت إسرائيل احتلال غزة.
وفي مقال مشترك، أكدا أن السيطرة على قطاع يقطنه 2.2 مليون نسمة ستكلف إسرائيل المليارات، وتقوّض مناعتها الاقتصادية، وتزيد من عزلتها الدولية.
بحسب تقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي، فإن إعادة إعمار غزة قد تتجاوز كلفته 53 مليار دولار، وهي تكلفة سترتفع مع استمرار العمليات العسكرية. كما حذّر المحافظان من أن المقاطعة الأكاديمية والعلمية والثقافية لإسرائيل تتسع، مما يهدد قطاع "الهايتك" الحيوي للاقتصاد الإسرائيلي.
عجز مالي متزايد وخروقات متكررة للميزانية
في خطوة تعكس الضغوط الاقتصادية المتفاقمة، قررت حكومة الاحتلال الإسرائيلية رفع سقف العجز المالي للمرة الخامسة منذ بداية الحرب، ليصل إلى 5.2%، مع تخصيص ما يقارب 29 مليار شيكل إضافية لميزانية الأمن. ويأتي هذا بالرغم من ارتفاع عائدات الضرائب.
الزيادة المتواصلة في النفقات العسكرية تقابلها تخفيضات مستقبلية في الخدمات المدنية، ما يعني تراجعًا في جودة التعليم والصحة والبنية التحتية. ومع احتمال فرض عقوبات دولية أو تراجع الاستثمارات، تلوح في الأفق أزمة اقتصادية حقيقية.