فرضت الإدارة الأمريكية مؤخراً رسوماً جمركية على 69 دولة من الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، تتراوح بين 10 في المئة و41 في المئة، بعد انتهاء المهلة التي أعطاها الرئيس الأمريكي لتلك الدول من أجل التقدم بعروض للدخول في اتفاقات تجارية مع واشنطن. وفي المقابل، عقدت الإدارة الأمريكية اتفاقيات مع بعض الشركاء كالاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية، إلا أن هذه الاتفاقات جاءت مشروطة ومبنية على تنازلات قاسية من الطرف الآخر.
ويعكس المشهد الأخير أن السياسة التجارية الأمريكية باتت أداة سياسية بامتياز، تتجاوز مقتضيات الاقتصاد الكلي إلى حسابات انتخابية وجيوسياسية وسياسية عقابية. وهي سياسات تسارع بتوحيد صف الأصدقاء قبل الأعداء على هدف واحد، وهو الخروج من دائرة الهيمنة الأمريكية، وبالتالي ينتقل الجميع إلى دفة الأعداء. وتحاول الدول النامية والتجمعات الاقتصادية مثل مجموعة البريكس أن تستفيد من هذا التحول لصالحها، لا عبر التكيّف معه بل من خلال تنويع شراكاتها التجارية، وتعزيز إنتاجها المحلي وبناء قدرة تفاوضية جماعية تحميها من التقلبات المستقبلية التي تنذر بالركود والتضخم وتغيرات في أسعار المنتجات.
قمة ريو دي جانيرو
وقد تابع العالم موقف دول مجموعة البريكس خلال قمتها في يوليو الماضي بريو دي جانيرو والتي أعطت الضوء الأخضر للمضي في إقامة نظام دفع بعملة البريكس كبديل للدولار. وبعد أيام قليلة من القمة، استخدم دونالد ترامب منصته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال" لتهديد الراغبين في الانضمام إلى البريكس، مؤكداً أن الدول المشاركة في سياسات البريكس المعادية لأمريكا ستواجه رسومًا جمركية بنسبة 10%. وبعد أسابيع قليلة، أعلن ترامب عن فرض رسوم جمركية باهظة بنسبة 50% على الواردات من البرازيل، كوسيلة ضغط سياسي ضدها وردًا على ملاحقاتها القضائية ضد حليفه اليميني المتطرف الرئيس السابق جايير بولسونارو المتهم بمنع تنصيب الرئيس الحالي لولا دي سيلفا بعدما هزمه الأخير في انتخابات عام 2022.
هذا الأسبوع، أعلن ترامب عن فرض رسوم جمركية بنسبة 50% على المنتجات القادمة من الهند، مبررًا فرض الرسوم بواردات الهند من النفط والأسلحة الروسية.
في البرازيل والهند، كانت ردود الفعل متشابهة إلى حد كبير. رفض زعيماهما، الرئيس لولا دا سيلفا ورئيس الوزراء ناريندرا مودي، رفضًا قاطعًا اتباع نهج الخضوع. ووصف كلاهما أن رسوم ترامب الجمركية تُعدّ تدخلاً أجنبيًا غير مقبول واعتداءً على سيادة بلديهما. وصرح لولا دا سيلفا بأنه لن يُذلّ نفسه للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة. كما صرّح ناريندرا مودي رئيس وزراء الهند بأنه مُستعد "لدفع ثمن باهظ" لحماية مصالح الهند. وسواءٌ أكان ترامب ينوي حقًا إضعاف دول البريكس أم لا، فإن سياساته تُؤدّي إلى نتائج عكسية حيث يُوحّد الرئيس الأمريكي المجموعة في وقتٍ تواجه فيه تحدياتٍ كبيرة!.
تنافس طويل الأمد
لم تكن مجموعة البريكس يومًا مجموعةً متناغمةً تمامًا من حيث مصالحها الدولية ومواقعها. هناك تنافسٌ طويل الأمد بين الهند والصين على سبيل المثال في آسيا. لطالما نظرت الهند بعين الريبة إلى قرب الصين من باكستان، عدوها الرئيسي. وعملت الهند طيلة عقود لمواجهة التوسع الصيني في جنوب آسيا، بما في ذلك المحيط الهندي. بينما سعت البرازيل والهند وجنوب إفريقيا باستمرار إلى الحفاظ على موقفٍ غير منحاز، رافضةً الانحياز الكامل لروسيا في توتراتها مع الدول الغربية. على سبيل المثال، رفضت الدول الثلاثة فرض عقوبات على روسيا، لكنها دعت إلى تسوية النزاع سلمياً.
مع التوسع الأخير للمجموعة، واجهت البريكس تحديات جديدة بسبب الاختلافات الداخلية في المصالح. وقد شكل دخول إيران مشكلة بعد أن كان هناك إجماع داخل المجموعة بشأن الوضع في غزة. وأكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن بلاده لا توافق على حل الدولتين في فلسطين، كما هو منصوص عليه في إعلان البريكس لعام 2025.
وفي الوقت الذي تواجه فيه مجموعة البريكس صعوبة تحقيق تقدم فى مطالبات الاستعاضة عن الدولار في التجارة الدولية، جاء الموقف الأمريكي بزيادة الرسوم الجمركية لينعش هذه المطالبات، وذلك على الرغم من أن دولاً عديدة وفي مقدمتها الهند لم تكن في السابق ترغب في اتخاذ خطوة قد تُسبب مشاكل مع الولايات المتحدة بسبب عملة البريكس.
تحدي الولايات المتحدة
لكنّ الرئيس الأمريكي لا يبدو أنه يبالي لهذا التفاوت في مواقف أعضاء المجموعة ولا لديناميكيات البريكس الحالية. واتجه لفرض رسوم جمركية على الدول في شكل أقرب للعقوبات التجارية، ومن بينها البرازيل والهند وهما من أكثر دول المجموعة محاولة للحفاظ على مواقف مرنة تجاه الولايات المتحدة. ولعل فرض رسوم جمركية على هذه الدول يؤدي إلى فقدانها خوفها السابق من تحدي الولايات المتحدة أو الإساءة إليها. وفي حين كان يبدو من غير المحتمل أن تتقدم عملة البريكس، فإن نظام دفع البريكس يصبح الآن أقرب إلى الواقع، بعد أن إعلان قمة المجموعة لعام 2025 دعم فريق عمل دفع البريكس والمضي لإنشاء مثل هذا النظام المالي البديل لنظام سويفت. وسواء عملت الهند والبرازيل ودول عديدة كشركاء حذرين داخل المجموعة لعقود من الزمن، فإن الرسوم الجمركية الأمريكية بنسبة 50٪ سارعت في قطع الروابط التي منعت هذه الدول في السابق من دعم السياسات التي تتعارض بشكل أكثر حزماً مع مصالح الولايات المتحدة!.
*كاتبة متخصصة فى الشأن الدولى