يبدو العالم وكأنه يعيش دوما على حافة هاوية من الصراعات والحروب المعقدة، ولذلك تتجه الأنظار فى الأيام القليلة المقبلة إلى نقطة على الخريطة لا يزورها الإعلام كثيرًا إلا فى مواسم الصيد الباردة، إنها ألاسكا.. لكنها هذه المرة ليست مجرد مسرح للثلوج والحيتان المهاجرة، بل ساحة محتملة للقاء نادر بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ونظيره الروسى فلاديمير بوتين، وحسب ما ورد من أنباء قد ينعقد اللقاء فى الخامس عشر من الشهر الجارى أغسطس ٢٠٢٥، بعد شهور من رسائل مشفرة، وضغوط اقتصادية، ومناورات دبلوماسية من النوع الذى يُحاك فى الظلال أكثر مما يُعلن فى قاعات المؤتمرات.
هذا اللقاء، إن تم، لن يكون مجرد قمة عابرة، بل محطة قد تُعيد رسم خرائط النفوذ فى أوروبا الشرقية، وتعيد صياغة معادلات القوة بين القطبين الأمريكى والروسي.
وفى زمن لم يعد يعرف اليقين الاقتصادى ولا السياسي، تتسارع الأحداث حتى تكاد تتخطى قدرة العقول على اللحاق بها، وبينما يعيش العالم على إيقاع أزمات متلاحقة تتشابك فيها خطوط النار مع خيوط الاقتصاد والدبلوماسية، تلوح فى الأفق لحظة قد تعيد رسم خرائط النفوذ وموازين القوة، بالقمة الأمريكية الروسية المرتقبة قد لا تكون مجرد اجتماع بروتوكولى بين زعيمين، بل منعطفًا فى مسار التاريخ السياسى المعاصر.
هذا الموعد لم يأتِ من فراغ، بل كان ثمرة شهور من جسّ النبض، ورسائل مبطنة، وضغوط اقتصادية، ومداولات خلف الكواليس، بدأت من موسكو نفسها حين عاد المبعوث الرئاسى الأمريكى ستيف ويتكوف إلى واشنطن بعد سلسلة محادثات مع المسؤولين الروس وُصفت من جانب الكرملين بأنها «بنّاءة». هذه الكلمة التى تبدو بسيطة فى ظاهرها، تحمل فى المعجم السياسى الروسى معانى أعمق من مجرد الإيجابية، فهى إشارة إلى أن الأبواب ليست مغلقة، لكنها أيضًا تذكير بأن الطريق محفوف بشروط وحسابات.
ترامب، الذى يعرف جيدًا فن تسويق اللحظات السياسية، وقد أعلن عن اللقاء بلهجة المفاوض أكثر من الزعيم، فهو لم يكتفِ بتحديد المكان والزمان، بل اشترط فى البداية أن يتخلله لقاء بين بوتين والرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكي، وكأنه يريد أن يفرض على موسكو اعترافًا رمزيًا بشرعية خصمها فى قلب الحرب، وبوتين، ببراجماتيته المعهودة، لم يرفض، لكنه تحدث عن «ظروف معينة» يجب أن تتوافر، تاركًا المعنى معلقًا بين التفاؤل والحذر، أما زيلينسكي، الذى يعيش يوميًا تحت ضغط الحرب، فقد أعلن صراحة أن بلاده لن تتخلى عن أى شبر من أراضيها، مستندًا إلى دستور أوكرانيا الذى يحظر التخلى عن السيادة الوطنية.
وراء هذه التصريحات الموزونة بدقة، تدور معركة موازية على جبهة الاقتصاد، حيث يستخدم ترامب العقوبات كأداة سياسية أساسية، وقد فرض مؤخرا رسومًا جمركية بنسبة ٢٥٪ على واردات النفط من الهند ردًا على شرائها الخام الروسي، وهدد برفعها إلى ٥٠٠٪ على أى دولة تكسر الحصار الاقتصادى المفروض على موسكو، وفى الكونجرس رأينا مسودة قانون «معاقبة روسيا ٢٠٢٥»، الذى يمنح البيت الأبيض صلاحيات شبه مطلقة لفرض عقوبات لا يمكن رفعها إلا بموافقة تشريعية، وهو ما يعنى تقييد أى إدارة مستقبلية قد تفكر فى تقديم تنازلات.
هذه الضغوط ليست مجرد أرقام على ورق، فهى تعيد تشكيل مسارات الاقتصاد والتجارة العالمية، وتفرض على الحلفاء والخصوم على حد سواء أن يحددوا موقفهم فى لعبة الاصطفافات الكبرى. موسكو، التى تعودت على التعامل مع العقوبات منذ ٢٠١٤، تجد نفسها الآن أمام طوق اقتصادى أكثر إحكامًا، بينما يحاول ترامب أن يحوّل الضغط الاقتصادى إلى أداة لكسر الإرادة السياسية للكرملين، أو على الأقل لجرّه إلى طاولة تفاوض بشروط أمريكية أكثر قوة.
اختيار ألاسكا كمسرح لهذا اللقاء ليس صدفة، فهى ليست فقط الأرض التى باعتها روسيا القيصرية للولايات المتحدة عام ١٨٦٧ مقابل ٧.٢ مليون دولار، فى صفقة رآها البعض آنذاك "بيع الثلوج بلا قيمة"، بينما تبين لاحقًا أنها كانت صفقة العمر بفضل ما تحويه من ثروات، بل هى أيضًا أقرب نقطة أمريكية إلى الأراضى الروسية، الموقع يرمز إلى الجغرافيا التى تجمع وتفصل فى الوقت نفسه، وإلى الجسر المحتمل أو الفجوة التى قد تظل باردة بين القوتين، من الناحية الأمنية، ألاسكا أرض أمريكية بالكامل، تمنح واشنطن السيطرة الكاملة على مسرح القمة، لكنها أيضًا بعيدة عن الضوضاء السياسية لواشنطن ونيويورك، ما يمنح اللقاء غلافًا من الخصوصية.
التاريخ القريب يروى أن الطريق إلى هذه القمة لم يكن سهلا، فى فبراير الماضى استضافت الرياض لقاءات تمهيدية بين وفدين أمريكى وروسي، لكنها لم تصل إلى درجة لقاء القمة. وفى مايو جرت مكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين، لم تخرج عن إطار المجاملات السياسية ومحاولة اختبار المواقف، لذلك تأتى قمة ألاسكا كأول محاولة حقيقية منذ تولى ترامب ولايته الجديدة لإحداث اختراق جاد بين واشنطن وموسكو، وهى محاولة تتغذى على رغبة مشتركة - ولو بدرجات متفاوتة - فى كسر الجمود.
أما السيناريوهات المحتملة لنتائج القمة، فهى تتراوح بين ثلاثة مسارات رئيسية الأول هو اتفاق على هدنة مؤقتة بضمانات دولية، يمنح الأطراف فرصة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق، أما الثانى هو عقد صفقة أكثر عمقًا تعترف ضمنيًا بسيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا مقابل ترتيبات أمنية، وهو سيناريو محفوف بالمخاطر السياسية خصوصًا فى كييف وعواصم الناتو، والثالث هو فشل القمة، ما يعنى استمرار الحرب وربما انتقالها إلى مرحلة أكثر عنفًا.
ومن المهم النظر إلى أن هذه القمة ليست حدثًا أمريكيًا / روسيًا بحتًا، بل عقدة فى شبكة أوسع من التوازنات الدولية، الصين التى تراقب من بعيد، تدرك أن أى تقارب بين واشنطن وموسكو قد يقلل من اعتماد روسيا عليها اقتصاديًا وسياسيًا، بينما يتيح لها استغلال المساحة لإعادة ترتيب أولوياتها فى مواجهة الولايات المتحدة فى آسيا والمحيط الهادئ، أما الاتحاد الأوروبى المنقسم بين المبدئية السياسية والحاجة الاقتصادية، يخشى أن يجد نفسه أمام أمر واقع فرضته صفقة أمريكية / روسية تتجاوز مصالحه. الشرق الأوسط أيضًا ليس بعيدًا، بدءا من أسواق النفط فى الخليج إلى حسابات إيران الإقليمية، وصولًا إلى توازنات القوى فى سوريا واليمن، ستجد هذه المنطقة نفسها متأثرة بشكل مباشر بنتائج القمة.
البعد الاستراتيجى الأعمق يتمثل فى مستقبل النظام الدولى نفسه، فنجاح القمة قد يعيد بعض الفاعلية إلى مجلس الأمن ويكسر حالة الشلل التى فرضتها سنوات من الفيتو المتبادل، بينما فشلها قد يسرّع من ولادة عالم أكثر انقسامًا، وربما يفتح الباب أمام سباق تسلح جديد.
الاقتصاد، كما هو الحال دائمًا، يظل الخيط الذى يشد كل هذه الخيوط معًا، ترامب يسعى لتسويق أى اختراق كإنجاز انتخابى داخلى يعزز الاقتصاد الامريكى وأسواق المال ويخفض أسعار الطاقة، بينما بوتين يريد أن يخرج بصورة القائد الذى أجبر أمريكا على الجلوس معه بندية رغم كل محاولات عزله، وفى قلب هذه الدوامة، تبقى أوكرانيا- التى تدور حولها كل هذه المعركة - فى موقف صعب، إذ قد تجد أن مصيرها يتقرر فى قاعة بعيدة عن كييف، بين أيادٍ تحمل خرائط وسياسات وأجندات لا تطابق بالضرورة طموحاتها أو تضحيات شعبها.
إن لقاء ألاسكا، سواء انتهى بصورة مصافحة تتصدر الصحف أو ببرود يعكس جليد المكان، سيظل لحظة كاشفة إما أن يفتح نافذة على عالم جديد يعاد تشكيله بالحوار، أو يغلق بابًا آخر فى وجه الحلول، تاركًا الساحة لصوت المدافع، وفى كل الأحوال ستبقى الثلوج شاهدة على يوم حاول فيه رجلان أن يعيدا رسم الخريطة بأقلام الدبلوماسية أو بخطوط النار التى لا تمحوها برودة الثلج.
