هددت إيران، بمنع مد ممر مزمع في القوقاز بموجب اتفاق إقليمي برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما أثار شكوكا جديدة حول خطة السلام التي أشاد بها البعض باعتبارها تحولا استراتيجيا مهما.
وفي أحدث زلزال جيوسياسي يرتبط باسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتحديدًا بمنطقة القوقاز، تم التوقيع على اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان في 8 أغسطس 2025. لم يكن هذا الاتفاق مجرد نهاية لصراع دام لعقود، بل كان إيذانًا ببدء مشروع استراتيجي ضخم حمل اسم "ممر ترامب للسلام والازدهار الدولي" (TRIPP).
ويمثل هذا الممر تحولًا جذريًا في ميزان القوى بالمنطقة، بل ويطلق شرارة سباق جيوسياسي جديد بين القوى العالمية والإقليمية، مما يفرض تحديات ومخاطر كبيرة على جميع الأطراف المعنية، مع تداعيات محتملة على الاستقرار الإقليمي والدولي، وفقًا لصحيفة الجارديان البريطانية.
شريان تجاري جديد أم اختراق أمريكي لفرض العزلة على روسيا وإيران؟
يُعرف المشروع إقليميا باسم ممر زانجيزور، ولكنه الآن يحمل التسمية الرسمية "TRIPP" بعد أن تولت الإدارة الأمريكية رعاية الاتفاق. وهذا الممر عبارة عن طريق بري يهدف إلى ربط أذربيجان بإقليمها الخارجي ناخيتشيفان، مرورًا عبر الجزء الجنوبي من أرمينيا المعروف باسم منطقة سيونيك.
وفقًا لموقع أكسيوس، يُقدر طول هذا الجزء من الممر الذي سيمر عبر الأراضي الأرمينية بحوالي 43.5 كيلومترًا، وهو ما يجعله ذا أهمية استراتيجية قصوى. ولكن الاتفاق لا يقتصر على مجرد إنشاء طريق، بل يهدف إلى بناء بنية تحتية متكاملة تشمل خطوطًا للسكك الحديدية، وطرقًا برية حديثة، وشبكات اتصالات متطورة، بالإضافة إلى أنابيب لنقل النفط والغاز. والأمر الأكثر إثارة للجدل هو أن هذه البنية التحتية، رغم وقوعها ضمن السيادة الأرمينية، سيتم إدارتها وتشغيلها من قبل اتحاد أمريكي خاص بموجب عقد إيجار طويل الأمد يمتد إلى 99 عامًا، كما أشارت صحيفة الجارديان.
هذا العقد الإيجاري تحديدًا هو ما جعل الممر نقطة اشتعال جيوسياسي، حيث إنه يمنح الولايات المتحدة وجودًا فعليًا ومباشرًا في منطقة لطالما كانت تعتبرها روسيا وإيران مجال نفوذ حصريًا لهما، ويُعيد رسم خريطة الطرق التجارية التي تربط بين أوروبا وآسيا الوسطى.
مصالح متقاطعة وتنافس حاد
وتتباين ردود الفعل تجاه هذا المشروع بشكل حاد، مما يعكس الأهمية الاستراتيجية للقوقاز. إذ ترى الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الاتفاق إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا لإدارة الرئيس ترامب، يعزز من مكانة واشنطن كقوة فاعلة في حل النزاعات الإقليمية، لا سيما في وقت يتضاءل فيه النفوذ الروسي. من منظور استراتيجي أوسع، يمنح الممر الولايات المتحدة نفوذًا هائلًا في منطقة كانت تعتبرها روسيا وإيران مجال نفوذ تقليديًا، وشخصيًا ربما يقرب الاتفاق الرئيس ترامب خطوات من جائزة نوبل.
ووفقًا لمجلة فوربس، فإن الممر سيوفر للشركات الأمريكية فرصًا تجارية هائلة تقدر بمليارات الدولارات سنويًا، حيث سيُحرر اقتصادات دول آسيا الوسطى من الاعتماد على الطرق التجارية التي تمر عبر الأراضي الروسية والصينية والإيرانية، مما يخدم أهداف واشنطن في احتواء نفوذ منافسيها الجيوسياسيين.
أما أذربيجان وتركيا، فهما المستفيدان الأكبر من هذا الممر. بالنسبة لأذربيجان، يمثل الممر اتصالًا مباشرًا مع حليفتها تركيا، مما يعزز من مكانتها كمركز تجاري إقليمي ويمنحها استقلالية أكبر. وتشير مجلة الإيكونوميست إلى أن الممر يمثل فرصة لـ"إحياء طريق الحرير القديم" كجزء من مشروع تركي أوسع، مما يقلل من اعتمادها على الممرات التجارية التي تسيطر عليها روسيا.
وكان الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف قد أشاد بالاتفاق ودعا إلى منح ترامب جائزة نوبل للسلام، مشددًا على أن الاتفاق يمثل خطوة لا رجعة فيها نحو السلام، وفقًا لصحيفة الجارديان.
وعلى الجانب الآخر، تبرز معارضة شديدة من قبل إيران، التي تعتبر الخاسر الأكبر من هذا المشروع. ترى طهران في الممر تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، حيث إنه يقطع روابطها التجارية والجيوسياسية مع أرمينيا، ويضعف نفوذها في المنطقة بشكل كبير. كما تخشى إيران من أن يؤدي نجاح أذربيجان إلى تحفيز النزعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة داخل حدودها. وبحسب فوربس، هدد مسؤولون إيرانيون بتحويل الممر إلى "مقبرة لمرتزقة الناتو ومرتزقة ترامب"، مؤكدين أنهم لن يسمحوا بأي تغييرات جيوسياسية على حدودهم، وهو ما يؤكد استعداد طهران لاستخدام القوة لمنع تنفيذ المشروع.
مواقف القوى الكبرى والإقليمية
وتُواجه روسيا ضربة قوية لنفوذها التاريخي في القوقاز. كما أفادت مجلة الإيكونوميست، فإن الممر يحرر اقتصادات دول آسيا الوسطى من الاعتماد على طرقها التجارية، ويقلل من أهميتها الاستراتيجية. هذا الوجود الأمريكي المباشر في منطقة لطالما اعتبرتها روسيا "فناءها الخلفي" يمثل تحديًا كبيرًا لنفوذها الإقليمي. على الرغم من أن موسكو لم تعلن عن معارضة قوية مباشرة، تشير التحليلات إلى أن روسيا تعمل بالتنسيق مع طهران لعرقلة المشروع، خوفًا من تزايد النفوذ الأمريكي في المنطقة.
أما الصين، فعلى الرغم من عدم وجود موقف رسمي مباشر، فقد ذكرت فوربس أن الممر يمثل تحديًا لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية. وأشارت المجلة إلى أن إيجاد بديل تجاري لدول آسيا الوسطى يقلل من اعتمادها على طرق التجارة التي تسيطر عليها بكين، مما قد يضعف نفوذ الصين الاقتصادي في المنطقة. كما تتضرر جورجيا، التي كانت تستفيد اقتصاديًا من كونها ممرًا تجاريًا للطاقة، بشكل كبير من المشروع. يعتقد محللون أن الممر قد يوجه ضربة قوية لاقتصادها، مما يثير مخاوف من عدم الاستقرار السياسي ويزيد من حدة التوترات الداخلية.
مستقبل يكتنفه الغموض
رغم توقيع الاتفاق، يواجه الممر مخاطر كبيرة قد تعيق تنفيذه أو تؤدي إلى تصعيد عسكري. التهديدات الإيرانية المتكررة تشير إلى أن الممر قد يكون هدفًا للتخريب أو الهجمات، مما يتطلب وجودًا أمنيًا كبيرًا. كما أوضحت الجارديان، فإن حماية الممر قد تتطلب وجودًا عسكريًا أمريكيًا على الأرض، وهو ما قد يتعارض مع سياسة ترامب "أمريكا أولًا" ويورط واشنطن في صراع إقليمي جديد. بالإضافة إلى ذلك، إصرار أذربيجان على تعديل الدستور الأرميني قد يثير المزيد من التوترات ويغذي المعارضة الداخلية للاتفاق، مما يجعله هشًا على المدى الطويل.
وكشف مشروع "ممر ترامب" أن الجغرافيا السياسية للقوقاز لم تعد حكرًا على روسيا وإيران. لقد أصبحت المنطقة ساحة صراع مفتوحة بين القوى العالمية، حيث يمثل هذا الممر بداية فصل جديد من التنافس على النفوذ والسيطرة على طرق التجارة العالمية، وهو فصل قد يحمل في طياته المزيد من التوترات والنزاعات التي يمكن أن تُغير بشكل دائم المشهد السياسي والاقتصادي في هذه المنطقة الحيوية من العالم.