في غمرة النكبات المتتالية التي شهدها قطاع غزة، وفي ظل الحرب التي لم تُبقِ حجرًا على حجر، ولا حلمًا إلا ودفنته تحت الركام، برز اسم أنس الشريف، ذلك الشاب الغزّي الذي لم يكتفِ بأن يكون شاهدًا على المأساة، بل اختار أن يكون صوتها الحي، ومرآتها الصادقة. لم تكن رحلة أنس الطويلة مع المعاناة رحلة في العمر والزمن، بل في العمق الإنساني والوفاء المهني. رحلة قصيرة من حيث السنوات، لكنها مليئة بالضوء، والدمع، والألم، والإصرار، تنتهي عند حدود المجد الأبدي: الشهادة.
من غزة خرج.. وإلى غزة عاد
ولد أنس جمال محمود الشريف عام 1996 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، حيث لا يكبر الإنسان إلا محمولًا على كتفي القهر والمقاومة معًا. هناك تشكّلت ملامح أنس بين أصوات الطائرات، وقصص الشهداء، والمآذن التي لا تهدأ عن البكاء على الضحايا. ترعرع في بيئة مشبعة بحب فلسطين، فانطلق نحو الإعلام لا من باب الشهرة، بل من باب الواجب.
التحق أنس بجامعة الأقصى، وتخصص في الإعلام المرئي، حيث أظهر موهبة لافتة منذ أيامه الأولى، فكانت الكاميرا في يده سلاحًا لا يقل قيمة عن البندقية، والكلمة التي ينطقها تحمل نبض شعبه وآهات أمهات المخيم.
بعد تخرّجه، بدأ متطوعًا في شبكة إعلامية محلية، ثم التحق بقناة "فلسطين اليوم"، قبل أن يستقر أخيرًا كمراسل لقناة الجزيرة في غزة. وهناك، بدأت رحلته الحقيقية، لا مع الخبر فقط، بل مع الحقيقة الموجعة.

الصحفي في ميدان الموت
أنس لم يكن صحفيًا خلف مكتب أو محررًا في غرفة أخبار مكيفة. كان في كل مرة أول الواصلين إلى مكان القصف، وأول من ينقل صور الدمار، والدم، والصرخات التي لا تملك إلا أن تسكن فيك. كان يركض بين الأنقاض حاملاً كاميرته، كأنها ضوءٌ صغير يحاول أن يتحدى ظلامًا من نار.
وقد كان من الطبيعي، في بيئة كتلك، أن يكون هدفًا. في عام 2018، أصيب بشظية في بطنه أثناء تغطية إحدى الغارات، لكنه عاد سريعًا إلى العمل، رافضًا التراجع. وخلال الحرب على غزة، وخصوصًا بعد أكتوبر 2023، تلقى تهديدات متكررة من الجيش الإسرائيلي عبر الهاتف، تطالبه بوقف تغطيته. لكنه كان يردّ دائمًا بكلمات مقتضبة: "أنا صحفي، وهذه مسؤوليتي".

الخذلان المتجدد.. وموت الأب
في ديسمبر 2023، تعرّض منزل عائلة أنس للقصف، ما أدى إلى استشهاد والده. في مشهد مهيب، ودّع والده ثم عاد بعد ساعات فقط ليظهر على الشاشة قائلًا:
"سأكمل المشوار.. هذه ليست قضية شخصية، هذه قضية شعب يُباد".
حينها، لم يعد أنس مراسلًا فقط، بل تحوّل إلى رمز للثبات والوفاء. لم يكن مجرد عينٍ تنقل، بل قلبًا ينبض بكل صورة، وصوتًا لا يتلعثم أمام الحزن.
عندما تكون الشهادة نهاية طبيعية للصدق
في العاشر من أغسطس 2025، وبينما كان يغطي ما تبقى من نبض في خيمة للصحفيين قرب مجمع الشفاء الطبي، تعرّض المكان لقصف إسرائيلي مباشر. استُشهد أنس على الفور، عن عمر 28 عاما إلى جانب زميله محمد قريقع ومصورين آخرين.
المشهد لم يكن مفاجئًا، بل كان متوقعًا في مسار أنس. من يمشِ بين النيران، ويكشف المستور، ويصرّ على أن يكون لسانًا للضحايا، لا بد أن يدفع الثمن. لكنه دفعه طواعية، بكامل وعيه، وبضمير مرتاح.
وصيته: الحقيقة لا تموت
ما جعل استشهاد أنس مؤلمًا أكثر، ليس فقط غيابه، بل وصيته التي ظهرت بعدها. قال فيها:
"إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي... بذلت كل ما أملك من جهد وقوة لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، لنقل الحقيقة، لفضح الظلم، لتوثيق الجريمة، لتصل صرخات الأطفال، ودموع الأمهات، إلى العالم...".
أوصى أنس بفلسطين، بأطفالها، برجالها، بنسائها، وبكل من يحمل همّها. لم يوصِ بثأر، بل بـحقيقة لا يجب أن تموت، ووعدٍ لا يجب أن يُخان.

ماذا بعد أنس؟
رحل أنس، لكن بقي اسمه شاهدًا على جريمة متعمدة ضد الإعلام، ضد الحقيقة، ضد أولئك الذين يحملون الكاميرا بدلاً من السلاح. استهداف الصحفيين في غزة لم يكن يومًا حدثًا عرضيًا، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى طمس الجرائم ومنع الرواية الفلسطينية من العبور إلى الوعي العالمي.
لكن ما لم يحسبه الاحتلال، هو أن أمثال أنس لا يموتون. بل يتحوّلون إلى رموز خالدة، ومدارس في الصدق، وصدى يتردد في الأفق رغم القتل.
أنس الشريف لم يكن نجمًا إعلاميًا يبحث عن مجد شخصي، بل كان ضميرًا صحفيًا حيًا، عاش حياة متقشفة، مليئة بالمخاطر، والدموع، والأمل العنيد. في كل تقرير كان يحكي وجعًا لا يعرفه إلا من عاش الحصار، والجوع، والموت المعلق.