في صحراء مطروح، وعلى ضفاف الحلم المصري الذي طال انتظاره، تتبلور ملامح أول مشروع نووي سلمي لتوليد الكهرباء في مصر ، لكن الحقيقة أن "الضبعة" لم تعد مجرد محطة طاقة، بل تحولت إلى رمز سيادي لنقل التكنولوجيا وتوطين الصناعات الثقيلة وبناء قاعدة وطنية نووية بأيادٍ مصرية.
هنا لا نتحدث فقط عن مفاعلات وأبراج وتوربينات، بل عن نهضة صناعية متكاملة تتسابق فيها الجهات المصرية مع الزمن، بالشراكة مع كبرى الكيانات العالمية، لتأسيس منظومة محلية قادرة على تصنيع أهم مكونات المحطات النووية، وإنتاج المهمات الكهربائية الحساسة، وتخريج أجيال مدربة على أعلى مستوى من الكفاءة والانضباط.
وفي هذا السياق، ترأس الدكتور محمود عصمت، وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، اجتماعًا موسعًا اليوم مع وفد رفيع المستوى من الجانب الروسي، ممثلًا في المهندس أليكسي كونونينكو، نائب رئيس شركة "أتوم ستروي إكسبورت" ومدير مشروع الضبعة، بحضور قيادات المشروع من الجانبين، لمناقشة آليات تسريع وتيرة العمل، وزيادة نسبة المكون المحلي، وتعزيز الشراكة المصرية-الروسية في مجال الصناعات النووية.
الوزير عصمت: أوامر رئاسية لتسريع التوطين وتحويل مصر إلى مركز إقليمي لصناعات الطاقة النووية
استهل الدكتور عصمت الاجتماع بالتأكيد على وجود توجيهات رئاسية واضحة لتسريع عمليات نقل التكنولوجيا وتوطين الصناعة النووية داخل مصر، مشيرًا إلى أن هناك عشرات الجهات المحلية المؤهلة بقوة للدخول في هذا المجال الحيوي، بدءًا من الصناعات الدقيقة وحتى المهمات الكهربائية المعقدة.
وأوضح أن نحو 80% من العمالة في المشروع حالياً هي من المصريين، وهو مؤشر عملي على مدى نجاح برنامج التدريب والتأهيل المحلي، مضيفًا أن الضبعة ليست فقط محطة لتوليد الكهرباء، بل مدرسة صناعية مفتوحة لبناء كفاءات المستقبل، ومختبر ضخم لنقل المعرفة وتعميق الخبرات.
مكونات نووية "صُنعت في مصر".. ودفعة قوية نحو الصناعة الثقيلة
تناول الاجتماع استعراض ما تم إنجازه في مجال التصنيع المحلي، حيث تم إنتاج بعض المكونات الأساسية للمفاعل داخل مصر، على رأسها الوصلات الخاصة بأنظمة التبريد التي تم تصنيعها بالكامل محليًا، إلى جانب البدء في تصنيع أجزاء وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل النووي، وهو من أخطر وأدق مكونات المحطة على الإطلاق.
كما بحث الجانبان آفاق التعاون مع الهيئة العربية للتصنيع وعدد من الكيانات الصناعية الكبرى، للمشاركة في إنتاج وتوريد معدات ومكونات المحطة النووية، بما يدعم خطة الدولة للتحول من مجرد مستهلك للتكنولوجيا إلى مُصنع ومُصدر لها.
اتصال مباشر مع "روساتوم" والهيئة العربية للتصنيع لتسريع وتيرة الإنجاز
في تأكيد على متانة العلاقة بين الطرفين، جرى اتصال مباشر بين المجتمعين والقيادات العليا في روسيا ومصر، شمل أليكسي ليخاتشوف، المدير العام لهيئة "روساتوم"، واللواء مختار عبد اللطيف، رئيس الهيئة العربية للتصنيع، لاستعراض الخطوات التي تم اتخاذها حتى الآن، ومناقشة الخطط التوسعية في مجال توطين المكونات النووية والكهربائية.
وتناول الاتصال أيضًا آليات التوسع في البرامج التدريبية وتبادل الخبرات، سواء داخل مصر أو في المؤسسات الروسية المتخصصة، بهدف بناء قاعدة بشرية قادرة على تشغيل وصيانة المحطة النووية بالكامل دون اعتماد دائم على الخبراء الأجانب.
الضبعة.. مشروع قومي يصنع المستقبل
أوضح وزير الكهرباء أن المشروع يسير بوتيرة منتظمة ووفق الجدول الزمني المحدد، وأن كافة الأطراف – المصرية والروسية والدولية – ملتزمة بالمخططات التنفيذية، مشيرًا إلى أن المحطة تستعد حاليًا لاستقبال المولد التوربيني الخاص بالوحدة النووية الأولى قبل نهاية العام الجاري، في واحدة من أهم المحطات في تاريخ المشروع.
وأكد عصمت أن الضبعة ليست فقط محطة كهرباء، بل جزء أصيل من استراتيجية الطاقة الشاملة للدولة، التي تهدف إلى تنويع مصادر التوليد، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتحقيق التوازن البيئي من خلال دمج الطاقة النووية ضمن مزيج الطاقة الوطنية.
رسالة للمستقبل: مصر على الطريق النووي بثقة واحترافية
انتهى الاجتماع بتأكيد مشترك من الجانبين على ضرورة تكثيف التنسيق الميداني والفني، وتذليل أي تحديات طارئة، مع ضمان أعلى معايير السلامة والجودة في تنفيذ المشروع، لما له من أهمية استراتيجية على الصعيدين المحلي والدولي.
في النهاية، لم تعد "الضبعة" مجرد مشروع هندسي ضخم، بل أصبحت عنوانًا لنهضة وطنية شاملة، تجسّد رؤية دولة تُراهن على العلم، وتُؤمن بالتصنيع، وتُشيد مستقبلها على قواعد من السيادة التكنولوجية والشراكات الاستراتيجية. ومع كل مرحلة تقترب من الاكتمال، تُثبت مصر أن الاستقلال الحقيقي لا يُمنح، بل يُنتزع بالإرادة، ويُبنى بالتصنيع المحلي، ويُتوج بالمعرفة والتقدم.
واليوم، ومع استمرار العمل في مدرسة الضبعة الفنية لتكنولوجيا الطاقة النووية، التي تُعد الأولى من نوعها في مصر والشرق الأوسط، يتكامل المشروع النووي ليصبح أكثر من مجرد محطة طاقة؛ بل منظومة متكاملة لتخريج الكوادر المؤهلة علميًا وعمليًا لتشغيل وصيانة المحطات النووية وفق أعلى المعايير العالمية، بما يدعم رؤية الدولة في بناء قاعدة بشرية قادرة على قيادة القطاع النووي بكفاءة واحتراف.